في الأسابيع الأولى من العدوان البري، خرج قادة الاحتلال وأبرزهم رئيس وزراء الحكومة الاسرائيلية "بنيامين نتنياهو"، ووزير جيشه "يوآف غالانت"، بتصريحات نارية، وعدوا خلالها الإسرائيليين والعالم بالقضاء تماماً على المقاومة في قطاع غزة في غضون أسابيع معدودة، وتفاخروا بقوة جيشهم.
لكن مر شهر وراء الشهر، وصولاً للشهر الحادي عشر، ومازالت المقاومة في غزة قوية، قادرة على توجيه ضربات موجعة للاحتلال، وكمائن محكمة، وتبدو متماسكة، متحكمة في الميدان، بل وأنها لا زال باستطاعتها ضرب أهداف بعيدة عن قطاع غزة، من سيديروت جنوباً وحتى تل أبيب.
واللافت أنه كلما أعلن الاحتلال عن القضاء على كتيبة أو لواء للمقاومة في منطقة ما داخل القطاع، تلقى ضربات موجعة في نفس المنطقة التي أعلن أنها طهرها من المقاومة، كما حدث في محافظة رفح، التي أوجعت الاحتلال خاصة بعد إعلان "جالانت" عن القضاء على لواء رفح في المقاومة، إذ تعرض بعدها الجيش الإسرائيلي لكمائن وهجمات لا تتوقف.
مفاجأة للعالم
وقدمت المقاومة في قطاع غزة أكبر مفاجأة منذ بدء الحرب على قطاع غزة، فرغم الحصار المطبق، واستحالة وصول أي نوع من السلاح والإمداد، إلا أنها مازالت قادرة على مجابهة الاحتلال، وضرب آلياته وجنوده في جميع المناطق، حتى في مناطق توغل الاحتلال فيها 5 مرات، ولم يستطع تطهيرها.
ووفق محللون ومراقبون، فإن المقاومة في غزة أذهلت العالم، ووضعت إسرائيل وحلفائها في موقف صعب، فجيش يعد من أقوى جيوش العالم، وأكثرها تطوراً، وامتلاكاً لترسانة كبيرة، وتكنولوجيا متطورة، مازال عاجزاً عن هزيمة فصائل صغيرة، تسليحها يعد متواضعاً، بالمفهوم العسكري.
وأكد محللون أن إقرار الاحتلال بصعوبة التعامل مع شبكة الأنفاق التي أنشأتها المقاومة على مدار سنوات، يعد اعتراف مبكر بالهزيمة، كما أن دعوة الجيش الإسرائيلي لوقف إطلاق النار في غزة، وممارسة ضغط على المستوى السياسي لقبول الصفقة، يعد اعتراف باستحالة هزيمة المقاومة في القطاع، بعد نحو 11 شهر من القتال.
حرب استنزاف
وقال المحلل العسكري اللواء فايز الدويري، في أكثر من مقابلة تحليلية، أن المقاومة في قطاع غزة مازالت قادرة على الصمود، وتخوض حرب استنزاف مدروسة، أرهقت الجيش الإسرائيلي، بل وتمتلك زمام المبادرة، وتقدم مفاجآت ليس عبر العمليات القوية، بل عبر التنويع، فلا تقتصر هجمات المقاومة على شكل واحد، بل تتنوع، وتستخدم أساليب مختلفة، فتارة تهاجم الآليات، وتارة تهاجم نقاط تموضع الاحتلال، مع استمرار عمليات القنص.
وأكد أن ما تُظهره المقاومة من صور ومقاطع فيديو حول مراقبة الاحتلال، وشر كاميرات سرية في مختلف المواقع، واستخدام مُسيرات في مراقبة وتصوير مناطق تواجد القوات البرية، يؤكد أنها مازالت قوية ومتماسكة، وقادرة على الاستمرار في مواجهة الاحتلال، واستنزاف جيشه لفترات طويلة قادمة، وهو أمر لا يمكن لأي جيش في العالم احتماله، فحرب الاستنزاف قادرة على هزيمة أكبر جيوش العالم، ودائماً ما تذهب هذه الحروب لأصحاب النفس الطويل، ويبدو أن مقاومة غزة ستكون صحابة النفس الأطول.
تبخر قوة الردع الاسرائيلية
أما الخبير العسكري واصف عريقات، فأكد أن 11 شهراً من العدوان قضت على قدرة الردع لدى جيش الاحتلال باعتراف قادتهم، مستشهدًا بتصريحات زعيم المعارضة الإسرائيلي "يائير لابيد"، الذي قال "هبطت حالة الردع"، إضافة لتصريحات رئيس وزراء الاحتلال السابق "إيهود باراك" الذي قال "ننتقل من الانتصار للانكسار".
وأضاف عريقات في حديث صحفي، " إنّ إخفاقات الجيش تؤكد بأن ركائزه الثلاثة قد ضُربت، وهي "الردع والإنذار والحسم".
واستدرك: "أمّا حرب الإبادة، وسياسة التطهير العرقي، فهي تحسب ضد جيش الاحتلال، ولا تحسب له في العمل العسكري، وما يحسب هو للمقاومة في قدرتها على الصمود والقتال، وايقاع الهزيمة بصفوف الاحتلال، وحرمانه السيطرة والثبات في مواقع تواجده، وتحرمه تحقيق الأهداف التي حققها له المستوى السياسي الإسرائيلي.
في حين يؤكد الفريق المتقاعد والنائب الأسبق لقائد الجيش الأردني، قاصد أحمد بأنه “صمود” المقاومة في قطاع غزة، يعود إلى “تأمين إمكانيات متنوعة ووسائل قتالية متعددة”، وتوافر مزايا النظام العسكري "الهجين".
وتابع: “المقاومة لها استراتيجية مختلطة في هذه المرحلة، وهي الدفاع بحرب العصابات، بعد أن نفذت عمليات تعطيل وتخريب لهذا الهجوم في رفح منذ 6 مايو/ أيار الماضي، بحيث إنها تسمح بتوغل محدود يصل فيه العدو الإسرائيلي إلى مناطق منتخبة (مختارة)، ومن ثم الهجوم عليهم بوسائل القتال المختلفة”.
وأردف: “المقاومة تمارس حالة من الخلطة الاستراتيجية، التي تؤدي بشكل أو بآخر إلى الهدف الكبير لها، وهو أن توقع خسائر كبيرة، وترفع ثمن الحرب على إسرائيل، إلى أن توصلها إلى حالة الفشل والإعاقة العسكرية الكاملة من الوصول إلى نتائج، وبالتالي تفتح المجال أمام إنهاء الحرب.
وعن “صمود كتائب المقاومة” لفترة طويلة رغم الظروف الصعبة، أرجع قاصد الأمر إلى أسباب هي أن “المقاومة تقاتل بمعركة حق مشروع للدفاع عن حقوقها وحريتها وأرضها ودمها وعرضها”.
وأضاف أن السبب الثاني هو أن “المقاومة محاصرة (للعام الـ18)، وتجاوزت كل القيود التي حاول يفرضها الجيش الإسرائيلي واستطاعت خلال هذه الفترة الطويلة أن تبني وتنظم نفسها عسكرياً، وتستوعب وتؤمن إمكانيات قتال ووسائل متنوعة ومتعددة، الكثير منها صنع محلي، وبعضها تكنولوجيا خارجية بالتعاون مع داعمين لها، ومنها ذات بعد استراتيجي وعملياتي وتعبوي”.
كما لفت إلى “تحضير وتخطيط كاملين للمقاومة”، واصفاً إياها بأنها “ذات نظام عسكري هجين، يمكن أن تنفذ عمليات عسكرية نظامية كجيش نظامي، ويمكن أن تلجأ إلى حرب عصابات بالوقت المناسب، ويمكن أيضاً أن تخلط بين الامرين.
تغيير مفاهيم
وباتت حرب قطاع غزة، وما يرافقها من نشر مقاطع فيديو من قلب مناطق القتال، والتي تظهر شجاعة المقاومين، وإقدامهم، لاسيما مشاهد وضع العبوات على الدبابات مباشرة من "مسافة الصفر"، ملهمة للشباب العرب في كل أنحاء العالم.
وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع تُظهر المقاومين وهم يهاجمون الآليات، مرفقة بتعليقات بعضها: "هذه هي البطولات الحقيقة"، "رفعتم رؤوس العالم العربي والإسلامي"، "أنتم الأبطال الحقيقيون.. أما لاعبي كرة القدم والمشاهير فهم ليسوا كذلك".
وأكد المواطن إبراهيم عرفات، وهي يتابع جيداً أغلب ما ينشر على المنصات العبية والعالمية، أن من ميزات حرب غزة أنها خلقت حالة من الوعي غير المسبوقة لدى الشباب العربي والإسلامي، وغيرت مفاهيم حول شكل البطولة الحقيقي، وأعادت جذوة الجهاد والمقاومة إلى العقول، وهذه المفاهيم اجتهد الاحتلال والغرب وإعلامهم الموجه لتغييرها، عبر خلق أبطال مزيفين، من ممثلين، ومشاهير، ولاعبي كرة القدم.
وأكد عرفات "لـ"فلسطين بوست"، أنه وبمجرد نشر مقطع فيديو من قبل المقاومة، خاصة تلك التي تظهر شجاعة وإقدام من المقاومين، ينتشر المقطع على نطاق واسع في جميع المواقع، وتبدأ التعليقات الإيجابية، والإرشادات بما يحدث في غزة.
وأوضح أن الشعوب العربية بدأت تدرك جيداً خطورة ما يحدث، ونوايا الاحتلال التوسعية، وبات هناك دعم وتعاطف واسع مع فلسطين وقضيتها، ومع مرور الوقت يتصبح غزة، تلك البقعة الصغيرة ستكون مصدراً لتغير كبير قادم في المنطقة باسرها، فأول خطوات التغير تبدأ بالمفاهيم والقناعات، وهذا يحدث على نطاق سريع.
ولفت عرفات إلى أن تغيير المفاهيم لم يقتصر على العرب والمسلمين، فقد امتد إلى كل شعوب العالم، وتعاظم عدد المتعاطفين مع فلسطين، والمؤيدين لقضيتها، وبفضل ما نشرته المقاومة من توثيق لعملياتها، أصبح الجميع يدركون حقيقة الأمور، وتجاوزا مرحلة التضليل والكذب التي مارسها الاحتلال والاعلام الغربي، لإضفاء شرعية على الاحتلال، وإظهار الفلسطينيين كأنهم "معتدين".