لا شيء أصعب من صراعك وسط حياة لست تدرك كيف تدور بك وما الذي تخبئه لك، وهل بها من الأقدار ما يثير عجبك أكثر مما رأيت، أنت هنا في قطاع غزة وسط عدوان فتّ في عضدك تكابد عناء الحياة، تارة بالخوف والقلق وتارة بالجوع ورغبة البقاء وأخرى بالتشرد والنزوح من مكان لآخر وأنت فاقد للسكن والمأوى، سؤالك الوحيد في كل صباح، متى تنتهي الحرب؟ ولا أحد يملك الجواب.
تغوص في معركة الحياة تائهًا متناسيًا كيف كنت تعيش أيامك قبل العدوان الإسرائيلي، تحاول أن تجعل ذاكرتك تخونك فتخبر نفسك أن حياة المرء ملؤها المشقة والعناء وقد ازدادت صعوبةً قليلاً!
ولكنك تقف أمام الواقع وأنت تجمع الحطب منذ الصباح لكي تطعم صغارك الجائعين وتشعل النار التي تلفح وجهك وهي متحدة مع حرارة الشمس فيمتلؤ وجهك بالدخان الذي يغشى عيناك فتصاب بالأذى والوجع، ولكنك لا تملك رفاهية التنحي عن واجباتك من أجل بعض الألم، لأن صوت الصغيرة وراءك وهي تردد” يلا بدي آكل جعت كثير” يكمل تسلسل الأوجاع التي تخفيها كل يوم أثناء صراعك في معركة البقاء.
أنت مطالب بتفقد الماء وتعبئته يوميًا حتى وإن بعدت المسافة وطال الانتظار فلا سبيل أمامك سوى ذلك، وعليك غسل الثياب الموجودة معك في كل نزوح على يديك نظرًا لانقطاع التيار الكهربائي عن القطاع كاملًا بسبب القصف المستمر منذ أكثر من 330 يومًا، أما عن مسحوق الغسيل فنادرًا ما تجده في الأسواق وبلا جودة تذكر، تتولى يداك تنظيف كل شيء وعليك أن تحتمل الوجع أيًا كان..
أما عن الطعام ورغبات الصغار ، فالحديث مُتسِعٌ لا انتهاء له، فالفاكهة والخضار معدومة في شمال القطاع وإن وجد بعضها فلا يستطيع أحد شراءها بسبب غلاء الأسعار الخيالي، أما باقي الأصناف التي تصل القطاع من خلال المساعدات كالحليب والمربى وغيرها فأنت تحاول أن تحضرها وقت تواجدها أيًا كان الثمن لأنك ربما لن تجدها في اليوم التالي.
يطلب صغيري منذ شهور كعكة ميلاده المزينة التي وعدته أن أصنعها له وقت انتهاء الحرب وينشغل بالي منذ اليوم هل سيأتي عيد ميلاده الثاني خلال الحرب ولم أفي بوعدي له؟ أكلات كثيرة يشتهيها تحتوي على اللحم والدجاج كنت أعدها له بهناء فأبتسم له وأخبره أنه حينما تنتهي الحرب سأصنع له كل شيء يرغب به وبطعم أشهى، ولكن الصغير ملّ الانتظار وبدأ يشعر أن الحياة لن تعود كما كانت وبات يردد بصوت منخفض مع نفسه” عارف انه الدنيا حرب وفش شيء لكن لمتى؟!” والمضحك المبكي أنه يخبرني “ ماما والله شكلنا احنا صبرنا أكثر من صبر سيدنا أيوب” فنعود لاسترجاع قصة سيدنا أيوب للتخفيف عن النفس والرضا بقدر الله.
أما عن الحزن فلست تعطيه حقه، تبكي قليلاً لفقدك والدك أو أخاك ثم تُجبر على إكمال الحياة والدوران معها لأنه لا مجال للوقوف، وعليك السعي ما دمت على قيد الحياة.
ولكن المؤلم أننا قبل ثلاثة أشهر كنا نقول عن الشهداء وقتها“ الله يرحمهم استشهدوا آخر الحرب” باعتقاد داخلي أنها شارفت على الانتهاء، أما اليوم ومع تعنت الاحتلال ومواصلته رفض المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني، بات الخوف ينهش قلوبنا أمام حقيقة استمرار الحرب لأمد طويل وحصادنا بأي لحظة كزرعٍ آتى أكله.
المصير معروف بالنسبة للفلسطيني المرابط الصابر، ولكنه القلب؛ يظل معلقًا بالأمل والفرج القريب والنصر على العدو والصلاة في المسجد الأقصى المبارك، وسط لقاء مع الأحبة والأهل الذين نزحوا إلى جنوب القطاع وتقطعت بنا السبل، كلٌ يبكي وجعه وجرحه الغائر ويأمل في حياة ملؤها الراحة والهناء.