أحاول الحديث عن أمر أسعى لكتمانه، أخاف من تفشيه، أريد استئصاله من المجتمع بأسرع طريقة، أو بالأحرى أريد له الموت!
يقول الله في كتابه "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا" أما الشاعر فقال "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا".
هكذا هو العدو كما أخبرنا الله عز وجل يحاول سلب أخلاق الدين من داخلنا ويدرك أن الصراع الخفي المستمر يفوق الصراع الظاهر، فيشدد حربه ليس بالسلاح فقط وإنما بنزع أبسط مقومات الحياة الأساسية كالمأكل والمشرب والملبس والمأوى ليسلب عقول الناس في توفيرها بأي طريقة حتى وإن كانت بعيدة عن الأخلاق والدين.
وعند تأمل حالة الناس والوقوف على صنائع الحرب نجد احتكارًا عم شوارع المدينة في أبسط الاحتياجات، فكثير من الناس يسعى وراء رغبة البقاء على قيد الحياة أياً كان ثمن البضاعة، وآخرون يستغلون هذه الرغبة في اللهث وراء رفع الأسعار لحدٍ غير طبيعي، يحاولون كسب المال لشراء احتياجات أخرى ولا يعلمون أن كل واحد منهم هو السبب في هذا الغلاء فمتى توقف بائع المعكرونة وبائع المعلبات عن رفع الأسعار، توقف آخرون واستطاع الناس إكمال الحياة بما لديهم من بعض المال المتبقي.
ومن الظواهر التي انتشرت في المجتمع مع استمرار الحرب واستشهاد عدد كبير من القائمين على تحقيق الأمن والنظام في القطاع، هي التعدي على ممتلكات الآخرين ومنازلهم باستباحة سلبها ونهبها والتصرف بكافة ممتلكاتها، فكثير من البيوت سلمت من القصف ولم تسلم من أبناء جلدتنا، تمزقت الخصوصيات وتعرت البيوت ولم يبقى سوى الجدران، فلا أثاث ولا أغراض المطابخ ولا حتى ملابس الأشخاص التي تحمل خصوصيتهم وذكرياتهم.
ظواهر طفت على السطح جعلت الناس يلهثون وراء دنياهم، ويتغافلون عن الموت الذي يطرق أبوابنا كل ليلة ونهرب منه خائفين آملين النجاة، ولكنه العدو يقاتلنا بكل ما أوتي من قوة ليردنا عن ديننا، عن حبلنا المتين.
أما عن صعوبة الحياة هنا فباتت تقف حاجزًا أمام الآباء والأمهات في تربية أطفالهم وغرس القيم الحميدة، فأغلب الناس فقدوا المأوى ولجؤوا لأقرب مركز للإيواء ومن خلاله تختلط مختلف أفكار الناس وعاداتهم وأخلاقهم ولا تستطيع الحجر على نفسك بأي حال، فأنت كأب وأم مطالبون باللهث طوال اليوم لتلبية الاحتياجات من حطب وإشعال النار لساعات وتعبئة المياه وغسل الملابس واستحمام الصغار وتوفير الدواء للمرضى وعليك إبقاء بعض الطاقة في جسدك ليتسنى لك الهرب بصغارك وقت النزوح من مكان لآخر.
تسابق الزمن من وظيفة لأخرى حتى يحل الليل دون أن تجد وقتًا لزرع أي قيمة أخلاقية في قلب صغارك من خلال قصصك المسلية التي كنت تحكيها لهم، لديك هدف تصحو من أجله وهو أداء مهمة الأكل والشرب والتخفيف من الخوف والهلع إثر القصف والحفاظ على المأوى نظيفًا صالحاً للحياة وغير ذلك من الاحتياجات.
والحرب طالت مداها وباتت تفت في عضد أطفالنا، بتنا نحاول جعل النهار يطول فنصحو مع الفجر نسابق الزمن، ولكن دون جدوى، لا نملك حرية الجلوس بهدوء لساعة من الزمن نتدارس فيها قيمة أو خلقًا أو معنىً به تعود الحياة كما كانت، فالهدوء غير موجود والأمن لا نستطيع تحقيقه!
كأمهات وآباء نأمل أن تنتهي الحرب ونعود لجلساتنا الدافئة مع صغارنا، نقرأ شيئًا من القرآن ونتحدث بقصة من قصص الأنبياء والصالحين نأخذ منها القيم والأخلاق، ونتدارس علمًا جديدًا لنؤسس جيلاً قويًا في عقيدته وعقله.
وما يؤلم أيضاً أن صغيري بات يستبدل رسوماته المعتادة من حدائق وورود وحيوانات يحبها بصور غريبة، يكاد العقل يحار بها ولا تخطر على بالنا نحن الكبار، لم أسأله ما هي الرسمة وما الألوان التي ترغب بها، اكتفيت بالصمت والسماع لحديثه مع أخته لأجده بعد لحظات يخبرها أنه رسم " كرتونة الكابونات" ووضع بها مزيدًا من علب الحلاوة واللحم، لم تعجبني الرسمة ألبتة ولأنني لا أملك حرية مسحها من دفتر الرسم الخاص به، قررت أن أمسحها من دفتر خيالاته فأخبرته أننا شعب كريم عزيز يملك قوته وعزيمته ويصبر على الصعاب ويبدع بابتكار مختلف الصناعات ولكننا نخوض حربًا مع محتلنا الإسرائيلي الذي يحاصرنا من كل اتجاه وتُركنا وحدنا نواجه جرائمه فلم نُنصر من قبل إخوتنا المسلمين حتى اللحظة، ولذلك لا نستطيع شراء مختلف أنواع الأطعمة لعدم تواجدها في السوق، كونه لا يدخل للقطاع سوى المساعدات الإنسانية التي ترسلها بعض الدول الإسلامية والعربية، ويوم انتهاء الحرب سنبعث للحياة من جديد، نبني ونعمر ونصنع ونربي ونمارس تجارتنا مع العالم في مختلف البضائع والمنتجات، اليوم نحن محرومون يا ولدي وغدًا سيكفينا الله.
أكتب اليوم لأنني سأحاول وجميعنا سنحاول أن ننتصر على الحرب داخلنا لنستطيع الحفاظ على جيل المستقبل من الضياع.