باتت حياة النازحين في مناطق غرب محافظة خان يونس، ووسط القطاع، تُوصف على أنها جحيم، بعد أن اجتمع عليهم الجوع والخوف، في أعاقب المجاعة المُتعمدة التي يسعى الاحتلال لنشرها في صفوف المدنيين، مترافقة مع تصعيد القصف والغارات، حتى في قلب ما يسمى "المناطق الإنسانية".
مجاعة تستشري
فمنذ بداية شهر أكتوبر/تشرين أول الماضي، تعمد الاحتلال تعميق المجاعة في قطاع غزة، بعد إغلاق المنفذ الوحيد المتُاح أمام دخول الشاحنات والمساعدات، بحجة ما يُسمى "الأعياد اليهودية"، ثم أعاد فتح المنفذ بصورة مُقصلة، وأوعز لعصابات مأجورة، يقودها خارجون عن القانون، بسرقة الشاحنات، وعدم السماح لها بالمرور باتجاه القطاع.
وخلف هذا الوضع الكارثي مأساة كبيرة، إذ نفذ الطحين من الأسواق، ولم تعد مؤسسات إغاثية ودولية تقوم على توزيعه، وفرغت الأسواق من البضائع، وبات الناس يتضورون جوعاً في خيامهم وبيوتهم، وأولياء الأمور يبحثون في كل مكان لسد جوع عائلاتهم.
بينما شهدت أسعار الرز، وهو البديل الأول عن الطحين، ارتفاع كبير، بعد تهافت المواطنين على شرائه، خاصة بعد منع الاحتلال استيراد البضائع من قبل التجار، كما كان سائداً قبل شهر سبتمبر/أيلول الماضي، وعدم السماح للمؤسسات الإغاثية بجلب المساعدات لغزة.
أطفال يعانون سوء تغذية
وخلفت المجاعة المذكورة وضع صحي متدهور لعموم السكان، خاصة الأطفال، فقد تسبب فقد الأطفال لقائمة طويلة من العناصر الغذائية الهامة، في ظهور أعراض سوء تغذية، وانخفاض واضح في الوزن، لاسيما بعد تعمق أزمة الطحين، وغياب الخبز عن الموائد، وهو الطعام الأساسي لجميع السكان.
وأكد المواطن يوسف حمدان، أنه بات يشعر بأن الوضع الصحي لأطفاله يتدهور باستمرار، وصحتهم تتراجع، ولاحظ أيضاً انخفاض واضح على أوزانهم، فعدم وجود الخبز على المائدة أدى إلى كوارث كبيرة.
وأوضح حمدان لـ"فلسطين بوست"، أن أطفاله لا يتناولون بالمطلق أي نوع من الخضروات أو الفواكه، كما أنهم محرومين تماماً من تناول اللحوم، البيض، منتجات الألبان، الأسماك، وهي عناصر غذائية مهمة لبناء أجسادهم.
وأكد أن ما يحدث مع أطفاله بات حالة عامة، فنقص التغذية بات يعاني منه الجميع، والأمور ستتفاقم حال استمر الحصار على هذا النحو، وواصل الاحتلال منع إدخال المواد الغذائية، ولا يُوضع حد لعصابات اللصوص ممن يقومون بسرقة الشاحنات.
وتعاني الأسواق في مناطق جنوب ووسط قطاع غزة، من شح شديد في الخضروات والفواكه، وما هو متوفر منها أسعاره عالية جداً، بينما فُقدت اللحوم والأسماك تماماً من الأسواق، إضافة لنفاذ البيض والحليب، والمُغذيات الأخرى.
من جهته قال المهندس نزار الوحيدي الخبير الزراعي، إن نقص الخضروات في الوجبات أمر خطير، وله عواقب صحية صعبة، خاصة على الأطفال، فهناك فيتامينات هامة مثل فيتامين A-B-C وغيرها، موجودة في الخضروات ولا يمكن الحصول عليها من مصدر آخر، إضافة لحاجة الأطفال للسكر الموجود في الفواكه، عدا عن حاجتهم للحم والبيض.
وأكد الوحيدي على ضرورة أن تتوفر الخضروات والفواكه التي تمد المواطنين خاصة الأطفال بالعناصر الغذائية الضرورية، تحسباً لحدوث سوء تغذية حاد، قد يؤدي إلى أمراض وربما وفيات في المستقبل.
شهداء الطحين
وشهدت الأيام القليلة الماضية تزايد ملحوظ في أعداد الشهداء ممن يسقطون خلال محاولتهم الوصول إلى منازلهم داخل محافظة رفح، وجميع هؤلاء الشهداء وصلوا المحافظة في محاولة لجلب كميات من الطحين، في ظل المجاعة الحاصلة، ونفاذ الطحين من الخيام والأسواق، ووقف توزيعه من قبل المؤسسات الدولية والاغاثية.
وسجلت مناطق حي الجنينة، وخربة العدس، وشارع صلاح الدين، شرق وشمال رفح، سقوط عدد كبير من الشهداء والجرحى، بعضهم سقط وهو يحمل شوال طحين عائداً إلى أبنائه، وقد نشر نشطاء صورة لرجل مُسن، يُدعى حمد النحال، مُدرج بدمائه بعد أن فارق الحياة، عقب استهدافه من طائرة إسرائيلية مُسيرة، وبجانبه شوال طحين، كان قد جلبه من بيته، ولم يستطع إيصاله لأفراد عائلته الجوعى.
كما سقط 3 شهداء ظهر اليوم "الجمعة"، خلال محاولتهم الوصول لمنازلهم في منطقة "عزبة الندى"، على شاطئ البحر، لجلب طحين.
وقال المواطن عبد الله عايش، إن اثنين من جيرانه سقطا، بعد أن وصلا إلى مناطق شرق رفح، وحاولا جلب شوالات طحين من بيت أحدهم هناك.
وأكد عايش لـ"فلسطين بوست"، أن المواطنين حين نزحوا عن منازلهم في محافظة رفح، في شهر أيار الماضي، كان الطحين متوفر وأسعاره رخيصة، لذلك ترك العديد منهم شوالات طحين في منازلهم، وأخذوا ما يكفيهم لشهر أو شهرين، ظناً منهم أن مدة النزوح لن تزيد عن ذلك، لكن وبعد تفشي المجاعة، باتوا يغامرون لجلبها، وللأسف معظمهم يسقطون خلال تلك المحاولات.
الخوف يجتمع مع الجوع
ولم يكن الجوع وحده الذي يتهدد حياة النازحين، فقد اجتمع معه الخوف والقلق، بعد أن أضحت مخيمات النزوح في مناطق جنوب ووسط القطاع هدفاً لطائرات الاحتلال، التي تُشن باتجاهها غارات يومية.
ولا يخلو يوم أو ليلة من هجمات إسرائيلية جديدة على مخيمات النزوح في مناطق وسط وجنوب قطاع غزة، خاصة ما يسمى بـ"المناطق الآمنة".
فمنذ بداية الشهر الجاري، باتت الهجمات على هذه المناطق تتكرر بصورة مستمرة، لحد وصل إلى تنفيذ 5 هجمات خلال يوم واحد، معظمها تستهدف خيام مأهولة، ما يسفر عن سقوط عشرات الشهداء والجرحى.
وتسببت هذه الهجمات، التي استهدفت غالبية المخيمات، في فقد الشعور بالأمان، بحيث بات النازحون يشعرون بأنهم في دائرة الاستهداف، حتى وهم في قلب المناطق التي طلب الاحتلال منهم التوجه إليها، وادعى أنها "إنسانية آمنة".
ويقول المواطن إبراهيم شقفة، وهو نازح من مدينة رفح، ويقيم في مواصي خان يونس، إنه يشعر بأنه وعائلته باتوا وسط القصف، والموت يُحيط بهم من كل مكان، فلا يخلو يوم من غارة تستهدف هذه الخيمة، أو قصف يضرب خيمة هناك.
وأكد شقفة أن أطفاله يعانون الخوف، وكلما سمعوا صوت مروحية تحوم في الأجواء، تصيبهم حالة من الخوف الهستيري، وبعضهم يلجأ للصراخ كوسيلة للتعبير عن خوفه.
وأشار شقفة لـ" فلسطين بوست"، أنه يشعر بأن الاحتلال يتعمد تكثيف الغارات على مخيمات النزوح، وبات يخشى أن تكون الغارة القادمة لخيمته أو خيمة مجاورة، والوضع يزيد خطورة مع مرور الوقت.
وأوضح أن الاحتلال يريد أن يُوصل رسالة للنازحين والمواطنين في القطاع، أنهم ليسوا بأمان حتى وإن كانوا في قلب المناطق التي ادعى سابقاً بأنها آمنة، وأن الهجمات ستطالهم أينما كانوا.
كتب: محمد الجمل