لم يكتف الاحتلال بالمجازر، والتهجير، وتدمير قطاع غزة، إذ يشن جيشه ومخابراته، حرباً موازية من نوع آخر، عبر تعمد صناعة الفوضى داخل القطاع، أو كما بات يُسمى "هندسة صناعة الفوضى في غزة"، من خلال سلسلة خطوات تبدو أنها مُدروسة، ومُمنهجة، تهدف إلى تحويل القطاع لبؤرة من الفلتان، وغياب الأمن.
كيف يصنع الاحتلال الفوضى؟
ووفق محللون ومتابعون، فإن الاحتلال يعتمد على عدة طرق في صناعة الفوضى في القطاع، أبرزها قصف واستهدافات مباشرة ومُركزة لعناصر الشرطة، وعناصر تأمين المساعدات، سواء خلال تواجدهم في الميدان، أو حتى في خيامهم وبيوتهم، بل واستهداف قيادات الشرطة، كما حدث قبل يومين، حين اغتالت قوات الاحتلال قائد الشرطة في قطاع غزة اللواء محمود صلاح، ونائب مسؤول جهاز الأمن الداخلي، العميد حسام شهوان.
والأمر الآخر لنشر الفوضى من خلال تشجيع وحماية عصابات اللصوص، ممن يتخذون من مناطق تواجد الاحتلال مقراً لهم، خاصة شرق رفح، ويهاجمون شاحنات المساعدات تحت حماية الطائرات الاسرائيلية، التي تعمل على قصف أي عناصر أمنية تحاول الوصول لهم، وكذلك استهداف عناصر تأمين المساعدات في قلب القطاع، لخلق فوضى، وتسهيل عمليات سرقة المُساعدات.
أما الشق الآخر وهو الفوضى الاقتصادية، من خلال تقنين دخول السلع، والسماح لبعض التجار بالعمل دون غيرهم، وتشجيع الاحتكار، وبالتالي خلق أسواق سوداء للسلع، تُرهق المواطنين، وتشيع الفوضى.
وشكلت "الليالي الدامية"، التي شهدتها مناطق المواصي في محافظة خان يونس، دليلاً آخر على كيفية صنع الاحتلال للفوضى بشكل مُتعمد في القطاع، ورغبته بتغييب أية تنظيم لوصول وتوزيع المُساعدات الإنسانية، ما يؤكد أنه يسعى لاستمرار المجاعة في مناطق جنوب القطاع.
فلم يرق للاحتلال نجاح فرق التأمين بإيصال أكثر من 100 شاحنة تابعة لوكالة الغوث إلى المخازن بداية شهر ديسمبر الماضي، وتسريع عمليات توزيع الطحين على الأسر المحتاجة في الأيام الماضية بعد ذلك، إذ عمل الاحتلال على إفشال محاولات تأمين القوافل التالية، التي عادة ما تتحرك فجراً، على شارع الرشيد الساحلي، بل وإشاعة أجواء من الفوضى، تُساعد على سرقتها.
وقال المواطن هاني طه لـ"فلسطين بوست"، إن فصول صناعة الفوضى تبدأ باستهداف مباشر لمجموعات تأمين من عناصر التأمين، ما يتسبب سقوط شهداء وجرحى، ثم يتبع ذلك بتسيير عدد كبير من الطائرات المُسيرة، بنوعيها "حاملة الصواريخ"، و"كواد كابتر"، والأخيرة تحمل رشاشات وقنابل، ما يُجبر الناجون من عناصر التأمين على التراجع، والانسحاب، وبالتالي السماح للعصابات واللصوص بالتحرك، وتوقيف الشاحنات وسرقتها.
وأكد طه أن اللصوص وتحت حماية جيش الاحتلال ينتشرون على طول شارع الرشيد، يضعون سواتر وموانع أمام الشاحنات، ما يجبرها على التوقف، حيث تم سرقة المساعدات، تحت منظور الطائرات التي كانت تحلق في الأجواء، دون أن يتم اعتراض اللصوص، بل كان يتم استهداف أي عنصر من الشرطة، أو مجموعات التأمين التي كانت تُحاول الوصول لمواقع سرقة الشاحنات.
مُخطط خبيث
وأكد المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، أن الاحتلال الإسرائيلي يُوفر رعاية كاملة لسرقة المساعدات، ويقتل عناصر تأمينها، لتجويع المدنيين، وخلق بيئة اقتصادية خانقة تؤدي إلى غلاء فاحش في الأسعار وفق خطة ممنهجة.
وقال المكتب الإعلامي الحكومي: " إن جيش الاحتلال يُمارس بشكل ممنهج وواضح أبشع صور الجرائم والانتهاكات ضد القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، من خلال عرقلة وصول المساعدات الإنسانية، بتسهيل مهمة سرقة الشاحنات المحملة بالمواد الغذائية والإغاثية المخصصة".
وأكد المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، أن الاحتلال يعمل بكل وضوح على توفير الرعاية الكاملة لسرقة المساعدات على يد فئة خارجة عن القانون وخارجة عن عادات وتقاليد شعبنا الفلسطيني، وذلك لتحقيق عدة أهداف منها: قتل أكبر عدد ممكن من عناصر تأمين المساعدات، والذين تجاوز عددهم حتى الآن 730 شهيداً من عناصر وشرطة تأمين المساعدات حتى الآن.
وأوضح المكتب الإعلامي أن ما يقوم به جيش الاحتلال الإسرائيلي من استهداف مباشر ومنهجي لقوافل المساعدات الإنسانية، سواء بمنع دخولها، أو عرقلتها، أو رعاية سرقتها، أو تسهيل نهبها من قبل مجموعات خارجة عن القانون، يعد جريمة حرب مكتملة الأركان، وفقًا لاتفاقيات جنيف والقانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني.
واستنكر المكتب الإعلامي الجريمة التي يرتكبها الاحتلال والمتمثلة في رعاية سرقة المساعدات ومنع وصولها للمدنيين والنازحين وقتل عناصر تأمينها، كما دان استمرار خطة تجويع المدنيين وكذلك الجهود الكبيرة التي يبذلها الاحتلال بسياسة رفع الأسعار.
وطالب المجتمع الدولي والأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية والإنسانية، بالتدخل العاجل والضغط على الاحتلال، لضمان تدفق المساعدات دون أي عوائق، وزيادة كمياتها، للقضاء على سياسة التجويع الممنهجة التي يمارسها الاحتلال، داعياً على ضرورة فتح تحقيق دولي عاجل وشفاف في جرائم الاحتلال، ومحاسبة مجرمي الحرب "الإسرائيليين"، وتقديمهم للعدالة الدولية في إطار محاكمتهم وعقابهم على هذه الجرائم.
فوضى من صنع الاحتلال
ووفق ما نقلته صحيفة "واشنطن بوست"، عن مسؤول رفيع في الإدارة الأميركية وصفه ما يحدث في قطاع غزة، بأنه فوضى من صنع إسرائيل، مشيرا إلى أن تل أبيب تتحمل المسؤولية عن المجاعة الجماعية ونقص المساعدات.
كما أفادت الصحيفة، نقلا عن مسؤولين أميركيين، بأن الأزمة في قطاع غزة تنبع مما اعتبرته فشل إسرائيل في تطوير استراتيجية عملية لما بعد الحرب أو التخطيط لعواقب الاحتلال العسكري المفتوح.
كما أشار مسؤول إسرائيلي مطلع إلى أنه لا يمكن إيجاد عائلة في غزة يمكنها فرض السيطرة المطلوبة، وأن حركة "حماس" ليست العقبة الوحيدة، حسب تعبيره.
وكان رئيس اللجنة العليا للعشائر في قطاع غزة أبو سلمان المغني أكد أن العشائر لا يمكن أن تقبل أن تكون بديلا عن الحكومة وعمن اختاره الشعب، مشيرا إلى أن مهمة العشائر هي حفظ النسيج الاجتماعي ودعم الحكومة في أداء عملها.
وفي وقت سابق قالت مصادر لوسائل إعلام عربية إن منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في قطاع غزة تواصل شخصيا مع وجهاء عائلات غزة، لكنهم رفضوا عرضه بشأن التعاون.
وأشارت هذه المصادر إلى أن وجهاء العائلات في غزة أبلغوا مسؤولين أمميين في اجتماعٍ سابقاً، رفضهم التعاون إلا عبر الأجهزة الأمنية في غزة.
وأضافت أن وجهاء العائلات أبدوا استعدادهم للتعاون في إدخال وتوزيع المساعدات، بشرط التنسيق مع أجهزة الأمن في غزة.
ويؤكد مسئولون في منظمات إغاثة دولية أن العصابات الإجرامية المسلحة المدعومة من الاحتلال هي التي تهاجم القوافل يوميا، وليس المدنيين اليائسين في غزة الذين يقومون بأعمال النهب العفوية.
وأبرزت نيويورك تايمز لماذا تريد “إسرائيل” تعزيز الفوضى في غزة: إذ أن الأبحاث تشير إلى أنه لا تزال هناك تكاليف لوجستية واقتصادية مرتفعة للحكم المجزأ وغير الرسمي.
كتب: محمد الجمل