تقرير: حنين قواريق
"باتت أزمة المياه هي الشغل الشاغل الذي يؤرق تفكير" المواطن بهاء زيد، بحسب تأكيداته، فهو يعيش في قرية جفنا الواقعة شمال مدينة رام الله، ويعيل زوجته وأبناءه.. كل صيف يذوق الأمريّن، ويعيش بقلق من الصيف المقبل، بسبب تخوفاته من تكرار ذات المشكلة.. مشكلة نقص كميات المياه الواصلة لقريته.
يقول بهاء: "الوضع صعب جداً بالنسبة لي ولعائلتي، خاصةً في فصل الصيف، فـشح المياه يؤثر علينا بشكل كبير، سواء في احتياجاتنا اليومية، أو لتلبية حاجات أولادنا، وبالتالي نكون حذرين بشدة خلال استهلاكها"، مُوضحاً أنها أضحت مسببةٌ للمشاكل مع أبنائه "إذا أسرفوا في استخدامها، خوفاً من انقطاعها عقب التعبئة في الأيام القليلة التي تصل بها إلى القرية، وبذلك تكون مصدراً لحالة الأرق التي تسود المنازل الفلسطينية" .
قرية جفنا ليست الوحيدة التي تقاسي هذه الأزمة، بل تشهد المدن الفلسطينية الأخرى انقطاعات متكررة لأساس الحياة، لا سيما محافظة رام الله، وسط اتهامات عارمة لمصلحة المياه، من قبل المواطنين والمجالس المحلية، والبلديات، بـ"سوء توزيعها لهذا المورد، بفعل جملة من المشاكل الإدارية، وغياب عدالة التوزيع بين المناطق".
وعلى الرغم من أن السبب الرئيسي في مشكلة المياه الممتدة منذ سنوات، هو الاحتلال الإسرائيلي، وإجراءاته التعسفية، إلا أن مصلحة المياه الفلسطينية تتجاهل إيجاد حلول استراتيجية بديلة، للتغلب على هذه المشكلة، إلى حين إيجاد حلول نهائية.
ففي كل عام، تُنقص شركة "ميكوروت" الإسرائيلية، حصة المياه للفلسطينيين في الصفة الغربية، كإجراء سنوي، حتى تجاوزت نسبة التقليل هذا العام أكثر من 50%، علماً أن "ميكوروت" هي "شركة المياه الوطنية في "إسرائيل"، والوكالة الأولى لإدارة المياه، وتأسست عام 1937".
حل لا يُسمن ولا يغني من جوع
فيما يتعلق بالحلول الاستراتيجية يقول نضال شاهين، رئيس بلدية بيرزيت، إن "المصلحة عملت على إيجاد حل بديل ومؤقت لإيصال المياه إلى بيرزيت، عبر نقل المياه من محطة عين سامية، والتي تقع في مناطق ج، عقب سلسلة من الاعتصامات والاحتجاجات المتكررة أمام مقرها"، معتبراً هذا الحل أنه "غير كافي، وغير نهائي، لأنه لم يحل الأزمة من جذورها، عبر مد خط رئيسي للبلدة، إما من عابود، أو المزرعة الغربية"، مُستثنياً الأسباب "الإسرائيلية" .
ويضيف: "كنا قد حصلنا على موافقة من قبل الاحتلال الإسرائيلي لمد هذا الخط الرئيسي، لكن المصحلة ماطلت في تنفيذ المشروع، إلى أن بدأت الحرب وأُلغيَت الموافقة"، مشدداً على أن المشكلة ستتضاعف العام المقبل.
"وفي الوقت الذي كانت البلدة تحتاج فيه إلى 50-60 ألف كوب، لم يكن يصل سوى 8000 كوب، لأكثر من 20 ألف نسمة، مع طلبة جامعة بيرزيت، يعيشون في البلدة"، على حد قول شاهين.
فما هو دور مصلحة المياه؟
وفقاً لقانون تنظيم شؤون مياه الشرب لمحافظة القدس، رقم 9، لسنة 1966، والذي صدر عن دولة الأردن، فإن مصلحة المياه مسؤولة عن تزويد سكان منطقة خدمتها بكافة احتياجاتهم من المياه، لأغراض الشرب والاستعمال المنزلي، والشؤون البلدية.
هذا وتمتد منطقة خدمة المصلحة على مساحة 600 كم مربع، وتشمل أجزاء كبيرة من محافظة رام الله والبيرة، و10 مدن، وبلديات أخرى، عدا عن 43 قرية، و5 مخيمات، فتخدم حوالي 400.000 ألف نسمة.
فتعتمد فلسطين على المياه المستخرجة من المصادر الجوفية والسطحية، والتي تبلغ نسبتها 76.4% من مجمل المياه المتاحة، كما قال الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، ومصلحة المياه.
لكن جل هذه المناطق تعاني من شح في المياه، وترمي بأصابع اللوم على المصلحة التي "تعطي الأولوية في إيصال المياه لمناطق على حساب أخرى"، كما هتف عشرات المواطنين الذين وقفوا مراراً وتكراراً أمام مصلحة المياه احتجاجاً على انقطاعها لفترات طويلة، إذ لم تُسيء المصلحة توزيع الكميات المتاحة لديها من المياه فحسب، بل تجاهلت اتصالات رؤساء البلديات والمجالس القروية، وتجنبت لقاء المواطنين الذين حضروا للمصلحة، الأمر الذي أعاق سبل التعاون وإيجاد الحلول المناسبة.
فقد شهدت المصلحة اعتصامات متعددة من قبل مواطني البلدات والقرى الأكثر تضرراً من هذه الأزمة، مثل بيرزيت، جفنا، وكفر عقب.. وغيرها.
فمثلاً نشرت بلدية بيرزيت في 18-7-2024، بياناً قالت فيه عقب إغلاقها المكتب المصلحة المتواجد في البلدة، إنه "تم إغلاق المكتب للمطالبة بإقالة مدير عام مصلحه المياه عبد الخالق الكرمي"، واعتبرت البلدية " تعنت" المصلحة وتعاملها غير مبرر، وغير منطقي، وغير مسؤول ومُتعمد بحق بلدة بيرزيت" .
مياه رام الله: انقطاع.. وارتفاع في الأسعار
لم تقف معاناة المواطنين من شح أزمة المياه عند هذا الحد، بل امتدت لزيادة تكاليف الحياة اليومية، في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية، إذ يشهد قطاع بيع المياه تباينًا ملحوظًا في الأسعار من بائع إلى آخر، ويعود هذا التفاوت إلى عوامل عدة، وفي حديثه حول هذا الموضوع، أشار أبو خليل، أحد بائعي صهاريج المياه إلى أن تحديد سعر كوب المياه يتأثر بعدد من العوامل، مثل: مسافة التوصيل، وارتفاع أسعار المحروقات، إضافة إلى تكاليف المركبة مثل رسوم الترخيص والضرائب، فضلاً عن المخاطر المرتبطة بالعمارات السكنية المرتفعة"، موضحاً أنه يبيع 2.5 كوب من المياه بسعر يتراوح بين 100-150 شيكل.
كيف ردت مصلحة المياه على هذه الاتهامات؟.. تجاهل للاتصالات.. وتخفي من المواجهة
حاولنا التواصل مع مدير مصلحة المياه، للحصول على تفسير منه، أو ممن ينوب عنه، حول الاتهامات التي صدرت ضد المصلحة، لكننا لم نلقَ تجاوباً حتى نشر التقرير.
في تصريحات سابقة قالت مصلحة المياه، إن "انتهاكات الاحتلال في تقليل كمية المياه، تؤثر على عملية إدارة التوزيع لمزودي الخدمة، جراء تفاوت الكميات وعدم انتظام ضخها من قبل الجانب الإسرائيلي" .
وأرجعت أسباب الأزمة التي تشهدها محافظة رام الله والبيرة، وتحديداً مناطق امتياز مصلحة مياه القدس، إلى الوضع الذي فرضته سياسات الاحتلال المائية التميزية، الذي أدى إلى "بقاء كميات المياه المزودة للفلسطينيين تراوح مكانها دون زيادة في الكميات توازي التمدد العمراني والتزايد السكاني، وازدياد متطلبات القطاعات التنموية كالسياحة في المحافظة، الأمر الذي فرض العجز المائي القائم" .
وشددت على أن ما يفاقم المشكلة هو "تخفيض "إسرائيل" لـكميات المياه بما معدله 15% تقريباً من الكميات المتفق عليها لتزويد المحافظة، إضافة إلى التذبذب الحاصل في ضغط المياه في عدد من المناطق والذي أدى إلى مشاكل إدارية في توزيع المياه وبالتالي عدم وصولها للمناطق المرتفعة" .
اجتماعات بلا فائدة
وخلال فترة الأزمة اجتمعت مصلحة المياه وسلطتها بعدة جهات، بغرض بحث سبل تحسين الوضع المائي في مناطق الامتياز، لكن كل ما قيل في هذه الاجتماعات، بقي حبيس جدران غرفة اللقاءات بمجرد مغادرة المجتمعين، ولم تُطبق أي حلول جذرية حتى هذه اللحظة.
تاريخ مطامع الاحتلال الإسرائيلي
بالعودة إلى الموجات الـ5 من هجرة اليهود من أوروبا إلى فلسطين، منذ عام 1881-1935، عَنَى المهاجرون استهداف منطقة السهل الساحلي، ووسط فلسطين، تمهيداً لإنشاء الكيان المزعوم، ولاحقاً خططت "إسرائيل" منذ "قيامها" عقب احتلال الأراضي الفلسطينية عام 1948، لتحويل مسار مياه نهر الأردن لصالحها، وكلفت شركة "ميكوروت" الإسرائيلية بذلك منذ عام 1953.
وبالفعل حولت "إسرائيل" مياه نهر الأردن وروافده إلى بحيرة طبريا، في مجرى يوازي الساحل الجنوبي لري صحراء النقب، ليبدأ بعدها منسوب المياه فيه بالانحسار، ناهيك عن تجفيف بحيرة الحولة شمالي فلسطين، الذي بدأ عام 1950، وانتهى في 1957.
وفي جل السنوات التي سبقت النكسة عام 1967، كان الاحتلال الإسرائيلي لا يتوانى لحظة للسيطرة على مختلف الموارد المائية، فحاول أيضاً السيطرة على أنهار الأردن، والليطاني، والحاصباني.
وفي الضفة الغربية، فقد سيطر الاحتلال على 90% من ينابيعها، حيث سيطر على المياه الجوفية، ومنع منح التراخيص لحفر آبار ارتوازية جديدة غير تلك التي حُفرت قبل عام 1967، وحدد كميات المياه المسموح استخراجها من تلك الآبار، عبر تركيب عداد على كل بئر.
وكان ذلك عبر سلسلة من القرارات العسكرية التي صدرت عقب احتلال بقية الأراضي الفلسطينية، وهي: أولاً: أمر رقم 92 بتاريخ 15/8/1967م وينص على منح كامل الصلاحية في السيطرة على كافة المسائل المتعلقة بالمياه للضابط المعين من قبل المحاكم الإسرائيلية.
ثانياً: أمر رقم 158، والذي نص على منع إقامة أي إنشاءات مائية جديدة بدون ترخيص، وللضابط العسكري المعين رفض أي ترخيص دون إعطاء الأسباب.
ثالثا: أمر رقم 291 عام 1967م وينص على أن جميع مصادر المياه في الأراضي الفلسطينية أصبحت ملكاً للدولة وفقاً للقرار الإسرائيلي عام 1959م.
وتجدر الإشارة إلى أن معدل استهلاك الفلسطيني اليومي للمياه هو 86.3 لتراً من المياه في اليوم، مقابل نحو 300 لتر يومياً للمستوطن، بحسب جهاز الإحصاء الفلسطيني.
لتستمر معاناة الفلسطينيين وتتفاقم بمرور الوقت.
" "أوسلو".. الطامة الكبرى"
اتفاقية "أوسلو" التي وُقعت عام 1993، والتي تضمنت اتفاقاً لإنشاء سلطة فلسطينية لإدارة المياه، إلى جانب ما جاء في الملحق 3، من البند 1، والذي ينص على "التعاون في مجال المياه وتطويرها بواسطة خبراء من الجانبين الفلسطيني و"الإسرائيلي، والاستخدام المنصف لموارد المياه المشتركة أثناء وبعد المرحلة الانتقالية".
فـكانت بنودها فيما يتعلق بقضية الماء:
* وضع خطة إسرائيلية – فلسطينية – أردنية مشتركة لاستغلال موارد المياه المشتركة ومشاريع تنمية المياه الإقليمية.
* إعداد المقترحات والدراسات والخطط التي تتناول الحقوق المائية لكل طرف.
* الاستخدام المنصف لموارد المياه المشتركة في الفترة الانتقالية وما بعدها.
بينما كانت اتفاقية أوسلو الثانية (1995) اتفاقيةً موسعة لحماية البيئة واستغلال الموارد الطبيعية على أساس مستدام. ويشار إلى المياه بموجب المادة 40 من الملحق الثالث، "البروتوكول المتعلق بالشؤون المدنية". إن القضايا الرئيسية المتفق عليها هي كما يلي:
* تعترف إسرائيل بالحقوق المائية للفلسطينيين في الضفة الغربية وسيتم التفاوض حول تلك الحقوق والتوصل إلى تسوية بشأنها خلال مفاوضات الوضع النهائي والتي تتعلق بمختلف مصادر المياه.
* ستنقل إسرائيل إلى الفلسطينيين الصلاحيات والمسؤوليات في مجال المياه والصرف الصحي في الضفة الغربية التي تخص الفلسطينيين فحسب، والتي تقع حالياً على عاتق الحكومة العسكرية وإدارتها المحلية. ولن تتم مناقشة هذا التحويل ضمن القضايا التي سيتم التفاوض عليها في مفاوضات الوضع النهائي.
* ستتم مناقشة قضية ملكية المياه والبنية التحتية المتعلقة بالصرف الصحي في الضفة الغربية في مفاوضات الوضع النهائي.
* تقدر الاحتياجات المستقبلية للفلسطينيين في الضفة الغربية بحوالي 70-80 مليون متر مكعب / السنة.
* تقدر الاحتياجات الفورية للفلسطينيين من المياه العذبة للاستخدام المنزلي خلال الفترة المؤقتة حوالي 28,6 مليون متر مكعب/ السنة (23,5 مليون متر مكعب/ السنة للضفة الغربية و5,1 مليون متر مكعب/ السنة لقطاع غزة. فيما يتعلق بـالـ 23,5 مليون متر مكعب/ السنة المخصصة للضفة الغربية، سيتم توفير 20,5 مليون متر مكعب/ السنة منها من الآبار الإضافية و3,1 مليون متر مكعب/ السنة من شركة ميكوروت – شركة المياه الوطنية الإسرائيلية.
ووفقاً لآراء الكثيرين، فإن اتفاقية "أوسلو" لم تجلب للفلسطينيين سوى قرارات عبثية لم تحفظ لهم أدنى الحقوق، بما فيها المورد المائي، فهي تتطرق لحصة المياه الفلسطينية من نهر الأردن، والأحواض الغربية والشمالية الشرقية المشتركة لطبقة المياه الجوفية الجبلية، ناهيك عن عدم منع أو خفض استهلاك "إسرائيل" للمياه من الموارد المائية الفلسطينية، إلى جانب تجاهل قضية التوزيع المنصف لذلك المورد.
فيقول د. عبد الرحمن التميمي، مدير عام مجموعة الهيدرولوجيين الفلسطينيين، إن "الاتفاقية سلمت مسؤولية موارد المياه الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي، وذلك أكبر خطأ" .
ويعتقد التميمي، أنه من الضروري إيجاد حل سياسي، عبر تشكيل ضغط دولي على "إسرائيل" لإعادة سيطرة السلطة الفلسطينية على مواردها من الماء، أو على الأقل منحها رُخص لحفر الآبار، حتى في المناطق المصنفة ج" .