مع دخول العدوان الإسرائيلي شهره الخامس على التوالي، لازال الاحتلال الإسرائيلي يقف عاجزاً عن تهجير الباقون من سكان مدينة غزة وشمال القطاع، رغم اتباعه أساليب قاسية، منها القتل، والتدمير، والتجويع.
فقد قتل الاحتلال الآلاف من سكان تلك المناطق، ودفع بعشرات الآلاف من المواطنين للنزوح عن منازلهم باتجاه الجنوب، تحت وقع القصف والتدمير، بينما فرض حصاراً مشدداً على تلك المناطق، ومنع دخول الغذاء والدواء إليها.
تجويع من أجل التهجير
ويقول إسماعيل الثوابتة المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة لـ"فلسطين بوست"، إن الاحتلال وبعد أن فشل بتهجير سكان شمال القطاع عبر القتل والتدمير، لجأ لأسلوب التجويع، وحاصر وجوع قرابة 800,000 مواطن حتى بات يتهددهم الموت نتيجة ذلك، موضحاً أن هذه السياسة المفضوحة تؤكد على النية المبيتة لحكومة الاحتلال بارتكاب حرب إبادة جماعية، وتهجير المواطنين من منازلهم قسرياً، تحت تهديد القتل والسلاح والقصف والتجويع والتعطيش، في مخالفة واضحة للقانون الدولي وللقانون الدولي الإنساني، ولكل المعاهدات الدولية الأخرى.
وأكد الثوابتة نفاد كميات الطحين ومشتقاته، والرز، والمعلبات، التي كانت متبقية في محافظة شمال قطاع غزة منذ ما قبل حرب الإبادة الجماعية على غزة، وهذا الأمر يؤكد بدء وقوع مجاعة حقيقية يواجهها المواطنون هناك.
وقال الثوابتة: لقد أجبر الاحتلال أهلنا في محافظة شمال غزة على طحن أعلاف الحيوانات والحبوب بدلاً من القمح المفقود، وأصبحوا يواجهون مجاعة حقيقية في ظل استمرار العدوان، وفي ظل تشديد الاحتلال للحصار.
وأكد أن محافظة شمال غزة تحتاج حالياً إلى 600 شاحنة من المساعدات والمواد الغذائية وذلك بشكل يومي، كما تحتاج محافظة غزة إلى 700 شاحنة يومياً أيضاً، لضمان عدم حدوث مجاعة حقيقية في المحافظتين.
وحمل الثوابتة المجتمع الدولي، والولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى الاحتلال "الإسرائيلي" كامل المسؤولية عن النتائج الكارثية، والموت بسبب المجاعة والعطش، وهي السياسة التي يكرسها الاحتلال منذ بدء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، ونطالبهم بوقف هذه الحرب الوحشية بشكل فوري وعاجل، ووقف شلال الدم، ووقف قتل واستهداف المدنيين والأطفال والنساء.
وكشف مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا" أنّ "إسرائيل" رفضت 22 طلبًا قدمته الأمم المتحدة خلال الشهر الماضي، لفتح حواجز التفتيش المقامة في "وادي غزة" بغية توصيل المساعدات الإنسانية إلى شمال القطاع.
تهجير قسري
وبعد فشل كل محاولات الاحتلال، لجأ جنود إسرائيليون لسياسة جديدة لطرد سكان غزة والشمال من منازلهم، وتتمثل في حصار العمارات، والمربعات السكنية، ومن ثم إجبار سكانها وتحت القصف وتهديد السلاح على سلوك طرق محددة، تفضي على خروجهم باتجاه الجنوب.
المواطنة هدى حرب، أُجبرت وعشرات النازحين على ترك منازلهم في منطقة الكتيبة غرب مدينة غزة، باتجاه مدينة دير البلح، إن الاحتلال أجبرهم في البداية على النزوح من مناطق وسط وشرق مدينة غزة في اتجاه الغرب، وكانوا يقيمون في بناية بمنطقة "الكتيبة"، ورغم القصف، والغارات، والتجويع، رفضوا ترك المنطقة والنزوح.
وقالت حرب: "فجأة حاصرت دبابات الاحتلال البناية التي يقيمون فيها، وعدد من البنايات المجاورة، وأطلقت النار والقذائف تجاهها، قبل أن يقتحمها الجنود تحت وابل كثيف من الرصاص.
وقالت حرب إن جنود الاحتلال أجبروا الرجال على التعري، واعتدوا على الجميع، واعتقلوا العشرات في ظل ظروف صعبة.
ثم أخرجوا النساء والأطفال وكبار السن من المنزل تحت تهديد السلاح، وأمروا الجميع بالخروج من مدينة غزة والسير باتجاه شارع الرشيد "البحر"، والتوجه نحو الجنوب، دون أن يُسمح لهم بأخذ أي من أمتعتهم أو فراشهم، أو حتى ملابسهم.
وأكدت أنهم كانوا يسيرون في أجواء من الرعب والخوف، وإطلاق النار في محيطهم يتواصل، ولا يسمح لهم بالتوجه يمينا أو يساراً، فقط السير في اتجاه شارع البحر.
وأوضحت حرب أنهم مشوا على أقدامهم مسافة طويلة، وكان من بينهم مسنين، ومرضى، إضافة لوالدها الذي أصيب لحظة اقتحام المنزل، وواجهوا متاعب كبيرة، حتى وصلوا مخيم النصيرات، ونُقلوا إلى مستشفى شهداء الأقصى لتلقي العلاج.
ووفق مصادر محلية فإن ما حدث مع عائلة حرب تكرر مع عدد كبير من العائلات، حيث بات الاحتلال يسعى جاهداً لتفريغ مدينة غزة وشمال القطاع من السكان بشكل كامل، خاصة بعد أن رفض مئات الآلاف منهم النزوح، رغم القصف والدمار والتجويع.
ووصل إلى مستشفى شهداء الأقصى عشرات النازحين ممن تم طردهم من تلك المناطق، إذ بدا بعضهم يعانون متاعب ومشاكل صحية كبيرة، وخضعوا لتدخلات طبية، وأُحضر لهم الطعام، حيث كانوا يعانون الجوع الشديد.
وكانت مدينة غزة والشمال تؤوي أكثر من 1.3 مليون شخص قبل العدوان، لكن يقدر عدد السكان المتبقين في تلك المناطق حالياً ما بين 700-800 ألفاً فقط.
صمود أسطوري
يعيش نحو 800 ألف شخص في مدينة غزة وشمال القطاع، رغم محاولات الاحتلال المتكررة لتهجريهم، واستمرار إلقاء منشورات تدعوهم للنزوح، وارتكاب مجازر متواصلة بحقهم، وحالة الجوع التي تتنامى في تلك المناطق.
ويقول الصحافي أحمد أبو قمر المتواجد حالياً شمال القطاع لـ"فلسطين بوست"، إن الناس هنا ترفض النزوح، وتُصر على البقاء في شمال القطاع، رغم الظروف التي وصفها بالكارثية، وحالة الجوع والحصار، واستمرار اقتحام الدبابات لتلك المناطق.
وأرجع أبو قمر أسباب رفض النزوح إلى ثلاثة أمور أساسية، الأول خشية الناس من الحاجز الذي أقامه الاحتلال جنوب مدينة غزة، والذي تحول لمصيدة لاعتقال وإعدام المواطنين، وسرقة الأمتعة والأموال، وغيرها من الأشياء الثمينة، مبيناً أن لسان حال الناس: " نفضل الموت على المرور من خلال هذا الحاجز، والتعرض للإهانة والإذلال، ومخاطر التصفية والاعتقال".
أما السبب الثاني وفق أبو قمر، هو الخوف من تبعات النزوح، مع اكتظاظ محافظة رفح ومدينة دير البلح بمئات الآلاف من النازحين، وعدم وجود موطئ قدم، ونوم الناس في الشوارع والطرقات، وهذا كله يعلمه سكان شمال القطاع، لذلك لا يرغبون في النزوح، فعلى الأقل هم في بيوتهم حالياً.
الناس تخشى إن خرجوا من شمال القطاع لا يسمح لهم بالعودة، وأن يكون النزوح بداية تهجير إلى مصر، يضيف أبو قمر هذه هي المخاوف الأكبر التي تدفع الناس في شمال القطاع للبقاء، رغم صعوبة الحياة، وانعدام كافة سبل الصمود.
بينما أكد العديد من سكان شمال القطاع، أنهم ما زالوا صامدين رغم "عمليات الإبادة"، لأنهم متمسكون بأرضهم، ومؤمنون بقضاء الله وقدره، واللافت أن أغلب السكان هناك يتمتعون بمعنويات عالية.
تنقلات مستمرة
ويصف أبو قمر حياة سكان مدينة غزة وشمال القطاع بانها باتت تشبه حياة البدو الرحل، ممن كانوا يتنقلون قديماً بحثاً عن الماء والكلأ، لكن في اختلاف أنهم يبحثون هنا عن قدر من الأمان، ويفرون من الدبابات التي تهاجم الأحياء والمخيمات باستمرار.
وأكد أبو قمر أن الناس يتركون منازلهم إذا ما هاجم الجيش مناطق يقطنون فيها، ويتوجهون إلى مناطق أخرى داخل شمال القطاع، وإذا ما انسحبت الآليات يعودون إلى مساكنهم وهكذا.
وأوضح أنه ورغم الظروف العصيبة، يحاول الناس هناك التكيف مع الأوضاع، ويكابدون لتوفير ما أمكن من وسائل العيش والأمان، ويتعايشون مع العدوان والحصار.
بينما أكد نازحون من شمال القطاع، إنهم ندموا على ترك بيوتهم، بعد أن عاشوا حياة صعبة في جنوب القطاع، إذ قال المواطن رامي هاشم، إنه اضطر وعائلته للنزوح بعد ارتكاب الاحتلال مجازر مروعة في محيط منزلهم شمال القطاع، وبدء تقدم الدبابات تجاه المنطقة، وظنوا حينها أن نزوحهم سيكون مدة قصيرة.
وأكد أنهم قضوا أكثر من 100 يوم من النزوح، وما يرافقه من معاناة، ويتوقون للعودة إلى مناطق سكناهم، حتى لو أقاموا في خيمة على أنقاض منازلهم المدمرة.
وأوضح أن الناس يعبرون عن رغبتهم بالعودة لشمال القطاع، بحزم الأمتعة والاستعداد للعودة كلما سمعوا أن ثمة هدنة جديدة تلوح في الأفق.
كتب: محمد الجمل