بالتزامن مع شن أوسع عدوان إسرائيلي يتعرض له قطاع غزة منذ عقود طويلة، يواصل الاحتلال فرض حصار مالي غير مسبوق على القطاع، منع بموجبه وصول الأموال لحسابات الأفراد، وكذلك حظر نقل السيولة النقدية للبنوك، وحاصر مالياً الشركات والمصارف.
هذا الحصار خلق واقعاً صعباً في القطاع، وفتك بالفقراء، ممن كانوا يعتمدون بشكل أساسي على مساعدات مالية تصل لهم من اقربائهم المقيمين في الخارج، إذ تعد تلك الحوالات أحد أهم مصادر الدخل للقطاع.
واشتكى مغتربون من عدم قدرتهم على تحويل أموال لأقربائهم بالطرق المعروفة، فيما عانى فقراء غزة من صعوبات في الحصول على الأموال التي كانوا يتلقونها كمساعدات من الأقارب.
وطالب خبراء مال، ومن بينهم الخير محمد أبو جياب، بضرورة بحث إنهاء الحصار المالي على القطاع، كأحد شروط مباحثات الصفقة التي تجري في القاهرة، باعتباره أحد أخطر أشكال الحصار الإسرائيلي على القطاع.
كيف كانت تصل الأموال لغزة؟
وقبل الدخول بتفاصيل الحصار المالي، ومعاناة المواطنين، كان لابد من توضيح طرق نقل ووصول الأموال للقطاع قبل العدوان.
ففي الظروف العادية وقبل العدوان الإسرائيلي كانت غزة تضم عديداً من المصارف التي توفر خدمات التحويل كـ"ويسترن ينيون" و"مونيغرام"، بالإضافة إلى وجود عديد من شركات تحويل الأموال المعتمدة، وكانت الحوالات الدولية إلى القطاع تستغرق عبرها نحو 24 ساعة كحد أقصى.
ويزور المستفيد أحد الفروع المعتمدة للمكاتب أو المصارف، ويوقع على استمارة استلام الحوالة، بعد إبراز وثيقة إثبات الشخصية، ليستلم المبلغ المالي المُرسل إليه، بنفس العملة المرسلة، وكانت العملية تتم بسهولة كبيرة ودون عوائق أو خصومات.
ووفق عاملون في مجال الحوالات المالية، فإن القطاع كان يستبل مئات الحوالات المالية يومياً، وتكاد تكون هذه الحوالات أهم مصادر عمل مكاتب الصرافة والبنوك في القطاع.
صعوبات كبيرة
لكن منذ بدء العدوان، وتدمير مكاتب الصراف، والبنوك، وفرض حصار مالي، بات تحويل الأموال من الخارج للقطاع صعباً، وأعلنت الكثير من دول العالم وقف ارسال الأموال لغزة، بناء على تشديد المالي.
وتقول المواطنة المغتربة شيرين عوض وتقيم في دولة السويد، إنها كانت ترسل في السابق أموالا لعائلتها، ولشقائها لمساعدتهم، ولم تكن تواجه صعوبات كبيرة في ذلك، خاصة أن المُحولة لهم الأموال هم على صلة قرابة من الدرجة الأولى.
وأكدت أنها ومنذ بدء العدوان باتت عاجزة عن تحويل الأموال، رغم أن الوضع الحالي يتطلب أن تزيد الحوالات، لمساعدة أهلها هناك.
وأوضحت أن جميع المغتربين ممن لهم أقرباء في غزة يعانون نفس المشكلة، والبعض عاد واستلم حوالات كان حاول ارسالها عبر بنوك ومحال متخصصة، ودفع رسوم الإرجاع، بعد أن عجز المصرف على ارسالها لغزة.
بينما تقول "منى"، وتقيم في محافظات الضفة الغربية ورفضت ذكر اسمها كاملاً، إنها رغبت في مساعدة أهل غزة من خلال أصدقاء يتواجدون هناك، وجمعت أموال من أقربائها، بهدف شراء مواد غذائية وتوزيعها على النازحين، لكنها صدمت بعقبة التحويل، والحصار المالي، مؤكدة أنها حاولت إرسال الأموال الى حسابات بنكية مباشرة، لكن يبدو الامر معقد، في ظل الرقابة المالية، ونجحت في بعض الأحيان بإرسال مبالغ صغيرة، وأحيان أخرى لم تنجح في ذلك.
وأكدت أنها تحاول البحث عن طرق أكثر نجاعة، لكن يبدو الأمر معقد للغاية، وتبحث عن شخص في الضفة، على علاقة مع تجار أو ميسورين في غزة، يمكن من خلاله التعامل عبر آلية التسليم باليد، بحيث يتسلم الشخص الأموال منها في الضفة، ويقوم الطرف الآخر بتسليمها للشخص في غزة، لكن هذا لا يبدو متاحاً في الظروف الحالية.
وأشارت إلى أن هناك العشرات بل المئات من المواطنين في الضفة الغربية يتوقون لمساعدة أهل غزة، ويتمنون إرسال مبالغ مالية لهم، لكنهم لا يجدون الآلية المضمونة لذلك.
وبالإضافة للحصار المالي، عمد الاحتلال إلى استهداف البنية التحتية للنظام المالي والمصرفي في قطاع غزة، وهو ما تمثل في استهداف أفرع البنوك العاملة في القطاع، وتدمير عشرات مكاتب الصرافة، وآلات الصرف الآلي.
حصار يفتك بالفقراء
بينما قالت المواطنة هدى يونس، إنها تعمد في معيشتها على الحوالات المالية المنتظمة التي يرسلها لها ابنها المقيم في أوروبا كل شهر، والتي تتراوح ما بين 400-500 دولار شهرياً، حيث تعيل نفسها وزوجها، إضافة لابنها المتزوج وعائلته، حيث لم يعثر الأخير على فرصة عمل.
وأكدت أنه ومنذ بدء العدوان حصلت على المبلغ المذكور مرة واحدة، وبخصم كبير، وابنها الذي لم يستطع استكمال التحويل، يحاول جاهداً إيجاد طريقة، في ظل اقفال جميع طرق التحويل إلى غزة في ظل الوضع الحالي.
وبينت أن الفترة الحالية لا تشهد قدوم مغتربين أو زوار لغزة، ليتسنى لابنها ارسال الأموال معهم، وكأن جميع الأبواب أقفلت في وجهها.
وناشدت يونس وغيرها من المتضررين، بضرورة رفع الحصار المالي عن غزة، وتسهيل وصول الأموال من خارج القطاع.
التحويل الأسود
ولجأ صيارفة وملاك محال متخصصة بالحوالات المالية، لما بات يسمى بـ"التحويل الأسود"، لنقل الأموال من الخارج لغزة، إذ يسلم الشخص المبلغ المالي المطلوب تحويله لكتب صرافة وحوالات في الدولة التي يقيم فيها في الخارج، مع دفع عمولة تصل إلى 5%، بينما يرسل المكتب البيانات المالية لفرع المكتب الآخر في غزة، أو مكتب بتعامل معه، حيث يقوم الأخير بتسليم الأموال للشخص المستحق بعد التحقق من هويته.
لكن التسليم في غزة لا يبدو سهلا، إذ يتم خصم عمولة ثانية، تتراوح ما بين 10-15%، ويتم تسليم المبلغ بعملة الشيكل، حتى وإن كان تم ارسالها بعملة الدولار، ما يترتب على الشخص دفع خسائر أكبر.
وهذا يعني أن هناك ثلاث عمولات تدفع على المبلغ، الأولى في بلد التسليم من قبل المرسل، والثانية في غزة من المستقبل، والثالثة عمولة تدفع كفارق تبديل عملات، يفرضها المبلغ على الشخص صاحب الحوالة..
ويقول المواطن محمود المصري إن شقيقه حول مبلغ مالي من تركيا بقيمة 400 دولار من خلال المكاتب التي تعمل بنظام "التحويل الأسد"، وتوجه لاستلامها وبعد التحقق من هويته، أخبره مالك المكتب أن هناك عمولة 8%، وأنه سيستلم المبلغ بعملة الشيكل بفارق كبير عن سعر السوق، موضحاً أن المبلغ نقص نحو 60 دولار، لكنه اضطر لذلك.
وثمة طريقة أخرى باتت دارجة في القطاع، وهي التسليم باليد، خاصة للشركات التي لها أفرع في غزة والخارج، أو رجال مواطنين لهم أقرباء هناك، بحي يسلم الشخص المبلغ في الخارج، ويتسلمه المقيم في غزة من شخص آخر داخل غزة.
استغلال مستمر
وبالإضافة لشيوع التحول الأسود، استغلت مكاتب الصرافة، حاجة المواطنين والموظفين للمال، في ظل اغلاق معظم المصارف في القطاع، ووجود ازدحام شديد امام ثلاثة صرافات آلية فقط تعمل في مدينة رفح، وباتوا يسلمون الأموال للمودعين والموظفين مقابل خصم نسبة تصل إلى 7%، حيث يقوم الصراف بسحب المبلغ من حساب المستفيد، وتحويله لحساب الصراف، ثم يعطيه الأموال في يده بعد خصم العمولة.
خسائر كبيرة
قدر المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة إسماعيل الثوابتة الخسائر المباشرة التي مني بها قطاع غزة حتى الآن بما يزيد على 12 مليار دولار، وذلك دون الأخذ بالاعتبار الخسائر غير المباشرة لصعوبة حصرها وفق تعبيره.
بيد أن رئيس المرصد الأورو متوسطي لحقوق الإنسان وخبير الاقتصاد والتمويل الدكتور رامي عبده كان قد توقع، أن تصل الخسائر الاقتصادية حتى الآن إلى نحو 20 مليار دولار، حيث أوضح عبده أنه هذا الرقم يستند إلى حجم التدمير الذي لحق في البنية التحتية والمنشآت المدنية والاقتصادية في القطاع.
وأشار معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) في تقرير أصدره في 26 تشرين الثاني الماضي، إلى أن إسرائيل عطلت اقتصاد غزة بأكمله "في المستقبل المنظور".
وذكر التقرير أن إسرائيل دمرت -حتى تاريخ إصدار التقرير- 23% من مباني القطاع بشكل كلي و27% منها بشكل جزئي.
حصار مشدد
وإلى جانب منع الحوالات المالية، منع الاحتلال تحويل أموال المقاصة إلى قطاع غزة، وقال وزير المالية الإسرائيلي "تسلئيل سموتريش" قررت عدم السماح بتحويل "حتى شيكل واحد" من الأموال إلى غزة، وقال إنه "أريد أن أقول بوضوح قدر الإمكان، لن يحدث ذلك أبدا.. طالما أنني وزير مالية دولة إسرائيل".
كتب: محمد الجمل