باتت الاجتياحات البرية المُفاجئة التي تستهدف مناطق سكنية مأهولة، تمثل التهديد الأكبر للمواطنين في قطاع غزة، لاسيما وأنها تأتي بعد فترة من الهدوء، تسمح لعشرات الآلاف من المواطنين بالعودة إلى بلداتهم ومخيماتهم ومدنهم، سبق وهُجروا عنها في اجتياحات سابقة.
ووفق متابعات "فلسطين بوست"، فقد حولت قوات الاحتلال هذه الاجتياحات بمثابة مصائد للمواطنين، إذ تنسحب من بعض المناطق، وتترك الناس يعودون لبيوتهم، وفجأة يجدون الدبابات في محيطها، وسط قصف جوي ومدفعي عنيف.
وسط القطاع .. قتل وتهجير
وفوجئ عشرات الآلاف من المواطنين من سكان وسط القطاع، بتقدم مفاجئ لأرتال من الدبابات وغارات جوية، وأحزمة نارية عنيفة، دون سابق إنذار أو حتى أوامر إخلاء، كما جرت العادة في بعض المناطق.
ووفق شهود عيان لـ"فلسطين بوست"، فقد احتلت دبابات وآليات عسكرية إسرائيلية المناطق ابتداءً من شرق بلدة القرارة، مروراً بمخيم المغازي، شرق مدينة دير البلح، قرية المصدر، ومخيم البريج، مع قطع الطريق الواصل بين وسط وجنوب قطاع غزة "شارع صلاح الدين"، بعد سيطرة الدبابات عليه.
وارتكبت قوات الاحتلال في تلك المناطق سلسلة من المجازر الكبيرة، إذ قصفت منازل على رؤوس ساكنيها، ولاحقت الطائرات المُسيرة النازحين، وأطلقت النار تجاههم، كما تسببت بنزوح عشرات الآلاف من السكان.
كما بدأت قوات الاحتلال بعمليات هدم وتدمير واسعة للمنازل، تركزت شرق مخيمي البريج والمغازي، وفي المناطق الشرقية من مدينة دير البلح، إذ دمرت الطائرات عبر الغارات والاحزمة النارية أبراج وعمارات سكنية، وجرفت منازل، وخربت طرقات، وبنية تحتية.
ويقول المواطن عمر صلاح، من سكان منطقة البريج، إن الاحتلال انسحب من المخيم منذ شهر فبراير الماضي، وبدأت الحياة تعود تدريجياً هناك، والناس أعادوا تأهيل منازلهم التي نجت، وعشرات الآلاف عادوا للسكن في المخيم، لكن فجأة ودون سابق إنذار استفاق الناس على الدبابات تقتحم بعض المناطق في المخيم، وسط قصف مدفعي وجوي عنيف.
وأكد صلاح أن المشهد لحظة دخول قوات الاحتلال للمنطقة كان مخيفاً ومروعاً، فالناس لم يكن أمامهم خيار، فتركوا كل شيء واتجهوا غرباً للفرار من الموت، موضحاً أن رحلة النزوح كانت خطيرة، فالقذائف تتساقط كالمطر، وطائرات كواد كابتر تطلق النار تجاه النازحين، والشهداء والجرحى كانوا في الطرقات".
وأوضح صلاح لـ"فلسطين بوست"، أنه لثاني مرة ينزح عن المخيم وسط القطاع في ظل حالة من الخوف والهلع، وقد لجأ الى غرب مدينة دير البلح، بدون خيمة أو أي مقومات حياة.
الموت في الطرقات
وكان المواطنون في مناطق وسط القطاع أمام خيارين كلاهما مر، إما البقاء في المنازل، والموت بداخلها، أو المغامرة والنزوح، والتعرض لنيران الطائرات المًسيرة، التي كانت تلاحق النازحين وتطلق النار تجاههم، إضافة للتعرض لقذائف الدبابات كالمطر.
وقال المواطن النازح ياسر أيوب، من سكان شرق مخيم البريج، وقد نزح إلى مناطق مواصي خان يونس عند بعض أقربائه، إنه عاش أسوأ ساعتين في حياته، ففي بداية العدوان تجمع وأفراد أسرته تحت سلم البناية، لاعتقادهم بأنها المنطقة الأكثر أمناً، لكن القذائف كانت تسقط حولهم كالمطر، والغارات الجوية تستهدف البيوت المجاورة، وكان الخطر شديد، خاصة مع سماع تحركات الدبابات في مناطق قريبة.
وأوضح أيوب لـ"فلسطين بوست"، أنه بعد تفكير قصير وتشاور مع أفراد عائلته، قرروا النزوح، حتى لا يموتوا في المنزل، وتتحلل جثثهم، ولا يستطيع أحد انتشالهم، موضحاً أنهم خرجوا للشارع، وبدؤوا بالجري تجاه الغرب، ولاحقتهم طائرات "كواد كابتر"، وأطلقت النار تجاههم، فأصيب ابنه الطفل "14 عام"، برصاصة في ذراعه، وأُجبروا على اللجوء لمنزل مجاور كانت أبوابه مفتوحة من شدة القصف، ووضعوا ضمادات على جرح ابنه، قبل أن يواصلوا طريقهم غرباً، موضحاً أن الجميع كانوا يهرولون بسرعة، محاولين الابتعاد، لكن الموت كان يلاحق النازحين في الشوارع، وشاهد شهداء وجرحى على الأرض، والقذائف لا تتوقف.
بينما أكد المواطن هشام نصر لـ"فلسطين بوست"، أن الناس كانت تجري دون وعي، والجميع كانوا يصرخون، وطوال الطريق يتساقط النازحون، وكان وأبنائه يفضلون المشي بجانب البيوت، موضحاً أن قذيفة سقطت على منزل كانوا بجواره، وفروا فلاحقتهم طائرة "كواد كابتر"، وأطلقت النار تجاههم، وعناية الله حالت دون تعرضهم للإصابة.
وأكد نصر أنهم اضطروا لقطع مسافة زادت على 8 كيلو متر، معظمها كانت جري، حتى وصلوا الى غرب مدينة دير البلح، وهم يجلسون لليوم الثاني في العراء.
وقدر نصر عدد الشهداء والجرحى ممن شاهدهم في الشوارع بأكثر من 50 عدا عشرات الجثامين والجرحى المحاصرين تحت الأنقاض، مبيناً أن هناك عشرات العائلات حوصرت داخل منازلها، بعد أن خشوا النزوح جراء شدة القذائف، وهم الآن لا يستطيعون التحرك، خاصة بعد أن أحكم الاحتلال حصاره للمخيمات التي اجتاحها.
وكانت إدارة مستشفى شهداء الأقصى في قطاع غزة، أكدت أن المستشفى تلقت في الساعات الأولى من العدوان البري، نحو 110 شهيد، وأكثر من 300 مصاب، وثمة اتصالات وردت للمستشفى تفيد بوجود شهداء وجرحى في الشوارع والطرقات، لم تستطع سيارات الإسعاف الوصول إليهم حتى الآن.
وكان مواطنون أكدوا أن الاحتلال أعاد الأمور منذ بداية شهر أيار الماضي إلى الأسابيع الأولى من العدوان، من حيث تكثيف الغارات الجوية، وتعميق العدوان البري، واغلاق الطرق، وحصار المخيمات، وهذا نتاج ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي بن يامين نتنياهو، بأنه سيزيد الضغط العسكري على سكان القطاع، لكن للأسف فإن ضحايا هذا الضغط هم المدنيون، ممن جرى قتلهم وترويعهم، وإجبارهم على النزوح من جديد، وسط ظروف إنسانية قاسية.
اعتقالات وتدمير
وبعد إحكام قوات الاحتلال سيطرتها على المناطق التي اجتاحتها، بدأت بحملة تدمير واسعة، شملت المنازل ومرافق البنية التحتية.
ووفق المصادر المتطابقة، فقد جرى تدمير مئات المنازل في مناطق شرق المحافظة الوسطى، خلال الأيام الماضية، إما عبر النسف، أو من خلال قصفها من الجو، وفي غالب الأحيان يتم تجريف المنازل بواسطة جرافات عسكرية إسرائيلية.
وقال المواطن أمجد عرفات، وقد نزح من مناطق شرق المغازي في اليوم الثالث من العدوان، إن الاحتلال استكمل حملات التدمير التي كان بدأها في اليوم الأول، فبمجرد وصول الجرافات المنطقة شرعت بهدم وتجريف البيوت، وكأن الهدف الأبرز من العدوان هو هدم المساكن، وتجريف البيوت.
وأوضح لـ"فلسطين بوست"، أنه شاهد خلال نزوحه دمار واسع في المخيم، كما شاهد ألسنة دخان تتصاعد بعد نسف مربعات سكنية في تلك الأحياء.
ولفت عرفات إلى أن الهدف الواضح من العملية هو تدمير المنازل، وتخريب البنية التحتية، وهذا كان واضحاً من خلال العدد الكبير من الجرافات العسكرية المشاركة في الحملة، وبات من المؤكد أن الاحتلال يسعى لجعل قطاع غزة منطقة غير صالحة للحياة.
وأفادت مصادر متطابقة باعتقال الاحتلال عشرات المواطنين، من بينهم نازحين ومن ضمنهم سيدات، جرى توقفيهم عند شارع صلاح الدين، إضافة لحصار منازل واعتقال عدد من قاطنيها، من بينها منزل عائلة "أبو اللوز"، شرق منطقة "أبو العجين"، جنوب شرق مدينة دير البلح.
ووصل ثلاثة أطفال شبه عراة إلى محافظة خان يونس، حيث أكدوا أن قوات الاحتلال المتواجدة على شارع صلاح الدين، كانت تستوقف العائلات، وتدقق في هويات المواطنين، وأنها اعتقلت العشرات من بينهم ذوي الأطفال، وجرى إجبار الأطفال على نزع جميع ملابسهم، باستثناء اللباس الداخلي، قبل أن تُطلق سراحهم باتجاه خان يونس.
ومنذ بدء العدوان البري اعتادت قوات الاحتلال على تكرار اجتياح المناطق التي سبق ونفذت عمليات برية فيها، وغالباً ما يأتي الاجتياح الثاني بشكل مفاجئ، ويكون بكثافة نارية عالية، ويسفر عن سقوط عدد كبير من الشهداء، ومال على ذلك ما حدث في محيط مجمع الشفاء الطبي في شهر آذار الماضي.
كتب: محمد الجمل