في زوايا غزة المُحاصَرة، حيث يُقاسي الأطفال جوعاً يُذيب أجسادهم قبل أرواحهم، وحيث تُحَوِّل الأمهات الحجارة إلى "خبز" لخداع بطون صغارها، تُكتَب فصولٌ من المعاناة الإنسانية التي لا يُصدقها عقل. منذ 19 شهراً، والاحتلال يُحكم قبضته على شريان الحياة، مُحوِّلاً الطعام إلى سلاح، والجوع إلى أداة بطيئة للقتل. لم تعد المجاعة هنا مجرد خطرٍ يهدد، بل واقعاً يُمحِي ملامح البشر، ويُغيّر شكل الأرض والإنسان معاً.
أصبحت الأجساد هياكلَ عظميةً تتهاوى عند أول خطوة، والعيون الغائرة تُحدّق في السماء بانتظار رغيفٍ أو قطرة ماء. المشافي تتحول إلى مقابر، والأطفال يموتون بصمتٍ أمام العالم الذي يختار أن يكون أعمى. الاحتلال لا يقتل بالرصاص وحده، بل بالجوع المُمنهج، بحصارٍ يُذيب الكرامة قبل الجسد، وبسياسةٍ تُجرّد الإنسان من إنسانيته لتجعل الموتَ خلاصاً يُحسد عليه.
هذه ليست مجاعةً طبيعية، بل جريمة مُخطط لها بعناية، حلقة أخرى من حلقات الإبادة التي لا تتوقف. فكيف يُمكن للضمير العالمي أن ينامَ بينما غزة تُقتل قطرةً قطرة؟ وكيف يُمكن أن نسكتَ ونحن نرى "التجويع" سلاحاً يُستخدم بدم بارد ضد أناسٍ لا ذنب لهم إلا أنهم وُلدوا فوق أرضٍ يطمع فيها كيان محتل؟ والسؤال الأقسى: كم طفلاً يجب أن تدفنه غزة قبل أن يفيق العالم؟
غزة تأكل نفسها والعالم يتجاوب بالدعاء دون فعل
هنا حيث يصبح رغيف الخبز أحجية لا حل لها، وحيث تتحول الحفرة في الأرض إلى فرن، والحذاء إلى وقود، تكتب أجساد الأطفال والنساء والشيوخ فصلاً جديداً من الجوع الذي تجاوز كل الحدود. المخابز مغلقة، والأسواق خاوية إلا من سلع نادرة بأسعار خيالية، تضاعفت 500%، فتحولت حفنة الدقيق بالديدان إلى "وجبة"، وبات العدس والمعكرونة بدائل مستحيلة لطحين لم يعد موجوداً.
المؤسسات الأممية والدولية ترفع تقاريرها، وتشجب، وتستنكر، وتناشد، لكن صوتها يضيع في دهاليز السياسة واللامبالاة. حتى عمليات الإسقاط الجوي للطعام التي كانت تمثل شريان حياة هشاً، توقفت، تاركة الغزيين في مواجهة آلة تجويع لا ترحم. الأفران الطينية أصبحت مشهداً يومياً، حيث يقضي الناس ساعات طويلة في انتظار رغيف مشوه، يُخبز على نار أشعلوها بأي شيء، حتى الأحذية والملابس القديمة.
الصحة؟ كلمة فقدت معناها. الأطفال ينهارون من الضعف قبل أن يصلوا إلى عيادات منهكة هي الأخرى. العيون الغائرة، الأجساد الهزيلة، والوجوه التي لم تعد تحمل إلا سؤالاً واحداً: إلى متى؟
العالم يشاهد، يتحدث، يندد، لكنه عاجز—أو غير راغب—في إجبار الاحتلال على وقف هذه المجاعة المتعمدة. كل هذا العجز يجعل العالم، في عيون أهل غزة، شريكاً في إبادتهم. فهل يحتاج الأمر إلى موت آخر طفل في أحضان أمه كي يتحرك الضمير الإنساني؟ أم أن غزة ستظل تُدفن تحت الصمت، وجيلاً بعد جيل، حتى يُكتب اسمها في سجل الإنسانية كشاهدٍ على زمنٍ خان فيه البشرُ إنسانيتهم؟
شهود على الجوع
في زوايا هذه البقعة القتيلة، يقف الصحفيون والمراسلون شواهد حية على المأساة.. صحفيون لا يقوون على الوقوف أمام الكاميرات من شدة الهزال.. أطباء ينهارون أثناء العمل لأن آخر ما تناولوه كان بعض فتات الخبز.. آباء يحمدون الله أن أطفالهم استشهدوا قبل أن يذوقوا مرارة الجوع الذي حوّل الحياة إلى جحيم.
هذا هو صالح الناطور، مراسل التلفزيون العربي في القطاع، يصف لنا كيف يذوب الجسد تحت وطأة الجوع:
"تأتيني نوبة الجوع فجأة.. تشعر وكأن جدران معدتك تلتصق ببعضها.. مرارة في الحلق كأن عصارة المعدة وصلت إلى فمك.. صداع شديد يضرب رأسك.. دوخة تجعلك تبحث عن أي شيء لتسند عليه جسدك المنهك.. تحاول العثور على أي لقمة ولو صغيرة لتخدع بها جوعك.. لكنها مهلة مؤقتة قبل النوبة التالية.. بعضنا لا ينجح في تجاوزها.. فيسقط في الطرقات أو داخل الخيام.. أجسادنا بدأت تهضم نفسها.. الكتلة العضلية تختفي.. الحيوية تنهار.. والأمراض تفتك بنا ببطء.. هذا ليس مجرد تعبير.. إنه سلاح قتل حقيقي نتعرض له كل ساعة."
ويوسف شرف، الذي فقد كل أهله ثم أُسر ليعود بعد صفقة تبادل، يقول كلمات تقشعر لها الأبدان: "الحمد لله أن أولادي استشهدوا وما عاشوا المجاعة.. أقولها بكل ما فيها من ألم.. لكنه واقعنا.. أطفال غزة ينامون جوعى.. وآباؤهم يعيشون عاجزين عن توفير أبسط لقمة.. عندما أسمع صرخات الجوع من بيوت الجيران، أحمد الله أن أطفالي لم يعيشوا هذه الكارثة."
وفي مشهد يختزل المأساة، تقف نجية محمود، الشاعرة الغزية، تصرخ بأعلى صوتها تنقل مشهدا آخر مر على قلبها بكل قسوته:
"أمانة.. أمانة.. بس شوي أعطوني.."
فتاة في الرابعة عشر من عمرها، بعيون خضراء كالربيع، تحمل قدراً أسود متفحماً.. تتوسل من رجل عجوز يحمل على عربته بعض العدس الأصفر المائي..
"والله يا بنتي.. هذا أمانة لناس ثانية.."
طعام كان سيرفضه حتى كلاب الشوارع قبل الحرب.. أصبح اليوم حلماً بعيد المنال.
هذه ليست مشاهد من فيلم رعب.. إنها الحياة اليومية في غزة.. حيث تحولت المعركة من أجل البقاء إلى حرب خاسرة ضد الجوع.. ضد العطش.. ضد النسيان.. حيث يموت الأطفال بصمت.. والآباء يبكون على عجزهم وقلة حيلتهم.. والعالم يشاهد.. يتحدث.. وينتظر.. بينما غزة تذوب قطعة قطعة.
كنت أود إغراق القارئ بكل أرقام الجوع وخرائطه في القطاع، أن أروي حكايات طوابير التكيات، أصوات الأطفال المتعبة، وأنين الأمهات عند الأفران الخاوية. تمنيت أن أكتب عمن يهادنون الجوع كل يوم، يعقدون معه هدنة مؤقتة فقط ليبقوا على قيد الحياة.
صحيح كيف يهادن الجائع جوعه ويعقد معه هدنة مؤقتة؟!
نهادن الجوع حين نربت على بطوننا الفارغة بكف الأمل، ونقنعها أن الليل قصير. نعقد معه هدنة مؤقتة بحبة زيتون، وبضحكة طفل نائم لا يعرف ما فاته من وجبات. نسكته بالحكايات، ونؤجل معركتنا معه إلى حين يعود الخبز من المنافي.