طبعًا يجب أن نجنّد كل قوانا لوقف المجزرة في غزة والضفة، وأن ندعم المقاومة، وأن نتصدّى لكل الحلول الفاسدة التي تمنع الشعب الفلسطيني من حقوقه، أي أن نعيش في الزمن الحاضر، وأن نتعامل مع تقلباته المتسارعة لحظةً بلحظة.
لكن من الضروري، وفي نفس الوقت، أن تكون لنا قراءة إستراتيجية وفهم دقيق لطبيعة الصراع. إنه الشرط الأول لاستقراء المستقبل والإعداد والاستعداد للخيارات الصعبة التي سيوفرها أو سيفرضها على كل اللاعبين في هذه المأساة المتواصلة منذ قرن.
(1)
أول ما يجب التركيز عليه لفهم الماضي والإعداد للمستقبل العودة إلى سؤال يبدو بسيطًا: من هي إسرائيل؟
ليس من باب الصدفة أن توضع هذه الدولة في خانة المنطقة الأوروبية عندما يتعلق الأمر بالمسابقات الرياضية والفنية أو الانتماء للمنظمات الأممية.
ليس من باب الصدفة أن الدولة التي وُلدت بفضلها كانت دولة أوروبية: بريطانيا.
ليس من باب الصدفة أن الدولة التي تشرّع معنويًا لوجودها لما ارتكبته من فظاعات في حق اليهود دولة أوروبية: ألمانيا.
ليس من باب الصدفة أن الدولة التي مكنتها من السلاح النووي دولة أوروبية: فرنسا.
ليس من باب الصدفة أن واضع مشروعها هرتزل لم يكن يهوديًا مغربيًا أو يمنيًا أو حبشيًا، بل أوروبيًا قحًّا.
ليس من باب الصدفة أن حكامها إلى اليوم من أصول أوروبية.
ليس من باب الصدفة أن دولًا أوروبية كبرى تهب لنجدة إسرائيل كلما دخلت حربًا: من التدخل البريطاني- الفرنسي سنة 1956 إلى مساهمة الدولتين في صدّ الصواريخ الإيرانية في حرب 2025.
لهذا ليس من الإجحاف القول إنه كما أن الشعب الفلسطيني هو آخر شعب مستعمَر على سطح البسيطة، فإن إسرائيل هي آخر المستعمرات الأوروبية الباقية في هذا القرن.
(2)
لفهم هذا المستوى من طبيعة دولة إسرائيل يجب العودة لقصة الاستعمار الأوروبي للعالم والتذكير بخصائصه ودوافعه العميقة.
عرفت أوروبا خاصة، ابتداءً من القرن السادس عشر، توسعًا هائلًا على حساب كل شعوب العالم نتيجة التفوق العسكري والصناعي والتمكن من تقنيات الملاحة بعيدة المدى. كان استعباد الشعوب الأضعف والاستيلاء على أراضيها وخيراتها سياسات محكمة تقودها الدول الأوروبية الأقوى. من أهم المراحل:
الاستعمار البرتغالي: انطلاقًا من 1415 باحتلال سبتة المغربية إلى احتلال ماكاو الصينية سنة 1556، مرورًا باحتلال البرازيل سنة 1500.
الاستعمار الإسباني: انطلاقًا من وصول كريستوفر كولومبوس سنة 1492 إلى جزر الكاريبي، وصولًا لاحتلال الفلبين سنة 1565، مرورًا باحتلال المكسيك سنة 1519 وبيرو سنة 1532
* الاستعمار الهولندي: انطلاقًا من تأسيس مدينة كايب تاون سنة 1602، إلى احتلال جزر التوابل (إندونيسيا اليوم) سنة 1641، مرورًا باحتلال شبه جزيرة مانهاتن في أميركا سنة 1626.
* الاستعمار البريطاني: انطلاقًا من تأسيس أول مستعمرة على الشاطئ الشرقي لأميركا سنة 1585، وصولًا لاحتلال الهند سنة 1758، ومصر سنة 1882، مرورًا باستعمار أستراليا سنة 1788.
* الاستعمار الفرنسي: انطلاقًا من "اكتشاف" كندا سنة 1534 إلى احتلال المغرب سنة 1912، مرورًا باستعمار الجزائر سنة 1830 والهند الصينية سنة 1885.
* الاستعمار الألماني: الذي احتل توغو، الكاميرون، ناميبيا، تنزانيا من 1884 إلى 1919.
ما لا يقع التركيز عليه أن الاستعمار وإن كان سياسة دول لامتلاك مزيد من الموارد والقوة السياسية، فإنه كان أيضًا مشروع شرائح مجتمعية اغتنمت الفرصة التي كانت توفرها الدولة الاستعمارية لتحقيق مصالحها ولأسباب خاصة بها.
خذ مثلًا هجرة البيض إلى جنوب أفريقيا في بداية القرن السابع عشر الذين عُرفوا تحت اسم البورز Boers.
اعتُبرت هجرة الإنجليز إلى أميركا الشمالية لمن عُرفوا تحت اسم Puritans إلى ولاية ماساشوستس بأميركا سنة 1620.
أو هجرة من عُرفوا باسم Quakers إلى ولاية بنسلفانيا سنة 1650.
أو هجرة الألمان والسويسريين الذين عُرفوا تحت اسم Amish إلى ولاية بنسلفانيا سنة 1720.
أو هجرة من عُرفوا باسم Mormons إلى وسط جنوب الولايات المتحدة سنة 1840.
بتفحص هذه الهجرات ستجد أن لها قواسم مشتركة:
* نفس الظروف الاجتماعية والدينية والسياسية المحفزة للهجرة؛ أي الاضطهاد الديني والسياسي والدونية الاقتصادية والاجتماعية لشريحة اجتماعية معينة.
* نفس اليوتوبيا بتحقيق المدينة الفاضلة في مكان قصي من العالم، ونفس الاعتماد على نصوص مقدسة قديمة تعد بإمكانية تحقيق أمر كهذا.
* نفس الشعور بالاصطفاء والتفوق الأخلاقي والروحي والانتماء للفرقة الناجية.
* نفس استغلال التفوق التكنولوجي والعسكري للدول والأنظمة التي يُراد إدارة الظهر لها ما دامت توفر إمكانات تحقيق الحلم وحتى الاحتماء بها عندما يتطلب الأمر.
* نفس الازدراء والتجاهل للشعوب التي يُراد الاستيلاء على أراضيها لبناء المدينة الفاضلة.
لا بد من قدر كبير من التعامي لعدم ملاحظة أوجه الشبه الكثيرة بين هذه الهجرات والمشروع الصهيوني.
كأنك تسمع هرتزل وأتباعه يقولون: نحن أيضًا الأوروبيون اليهود نريد نصيبنا من الوليمة الاستعمارية بعد أن استأثر بها الأوروبيون المسيحيون.