في زمن المقتلة الكبرى، يخرج علينا من بين الصفوف صوت يصرخ: "أوقفوا الحرب بأي ثمن". قد يكون هذا الصوت آتيًا من عاصمة غربية تتاجر بالإنسانية في مواسم السياسة، أو من منبر إعلامي مشبوه يوزع الشفقة كأنها سلعة رخيصة، أو حتى من بعض أبناء غزة المنهكين تحت الركام والدم والرماد.
لكن، أيّ معنى لهذا النداء إن كان "الثمن" هو استسلامٌ يشرعن الهزيمة ويكافئ القاتل؟ أيّ إنسانية تلك التي تطلب من الضحية أن تضع رقبتها تحت حذاء الجندي الإسرائيلي الذي قتلها مرارا كي تتوقف المذبحة؟ إنّ الإنسانية الحقة لا تقف على أعتاب الخوف واليأس، بل على أرض العدالة والكرامة.
لا أنكر أنّ الألم يرهق الروح وأنّ الحصار والدمار يثقل النفوس فتراها تبحث عن الخلاص بأي مخرج. لكن الكلمة – خاصة حين تصدر عن صحافيين أو مثقفين أو نخبويين – ليست تنفيسا شخصيا ولا موقفا عاطفيا عابرا، بل هي موقف ومسؤولية وشهادة للتاريخ، إما أن ترفع الحق وتكشف الظلم، أو أن تتحوّل – بقصد أو بغير قصد – إلى غطاء يموّه الجريمة ويطيل عمرها، ويؤيد السردية الاحتلالية، ثم تغرق في خطاب الحياد الزائف الذي يجمل القبح ويحاول جاهدا إخفاء بشاعة المقتلة.
إن الغفلة والانسياق وراء العقل الجمعي الذي يروج له القاصي والداني اليوم، بضرورة الاستسلام والتسليم لحقن الدم، ما هو إلا سلاح بيد القوى التي تريد إنهاء القضية، تحت لافتة "الإنسانية"، أقصد إنسانيتهم هم، أما الإنسانية التي نطلبها نحن لا تنفصل بحال من الأحوال عن العدالة والكرامة والعزة.
وأما أولئك الذين يتسترون بلبوس "الحياد أو الإنسانية"، فهم يساوون بين الجلاد وضحيته، ولا يختلفون أبدا عمن يبررون المذبحة بلغة المصالح، وهدفهم سلخ القضية عن لبها الحقيقي وهو: (البذل من أجل الحرية)، فما يحدث ليس مأساة إنسانية عابرة.
سيدي عمر خلده التاريخ بقولته الشهيرة: "نحن لن نستسلم .. ننتصر أو نموت".
وخلد التاريخ كذلك كلا من:
عبد القادر الجزائري الذي قال: "إذا انتصرت فرنسا عليّ فذلك لا يُعيبني، لكن العيب أن أستسلم لها."
عز الدين القسام قال: "إن الاستشهاد في سبيل الله أسمى أمانينا."
تشي جيفارا الذي قاتل حتى آخر رصاصة قال: "أفضل أن أموت واقفًا عن أن أعيش على ركبتيّ".
وغيرهم الكثير خلدوا في قلوبنا لا لشيء سوى، لأنهم آثروا الموت على امتهان كرامتهم.
حتى مقاتلو إسبارطة الـ 300 خلدهم التاريخ لأنهم قاتلوا حتى آخر نفس وقتلوا دفاعا عن كرامتهم وعنفوانهم.
وأعود لأقول: تلك الأصوات التي تخرج من بين صفوف المجاهدين في غزة، ما هي إلا مرايا متكسرة، بعضها يعكس صدق المعاناة ووجع الحياة وحجم الألم تحت الركام ومقدار الدم النازف، وبعضها يعكس يأسا مستسلما وسلما مخزيا يتمسك بحياة، دون أن يسبقها أل التعريف، ظانا أن النجاة تأتي بالخضوع والذل، أما الصادقون مع ربهم وإسلامهم وأنفسهم يؤمنون بأن وجع الجسد لا يلغي حق الروح في الكرامة، وأن الغزيّ الذي ينادي بالنجاة والاستسلام، إنما يردد - دون أن يشعر - صدى الرواية التي يريد الاحتلال فرضها.
أما "الإنسانيين"، فنقول لهم إن الإنسانية الحقة النابعة من تعاليم الإسلام، لا تقف عند حدود وقف النار ورمي السلاح، بل عند استعادة الحق لأهله، وكل دعوة لا تبنى على هذه الأرضية، ليست سوى خطاب عاجز يجمّل القبح ويلبس الامتهان والذل والهوان والخذلان والقهر والعجز، ثوب الرحمة.