لم يكتفِ الاحتلال بالحصار والتجويع، والقتل والتدمير الذي يمارسه بحق سكان القطاع منذ عامين، بل بات يستخدم وسائل أخرى، منها الحصار المالي والاقتصادي، الذي أرهق سكان القطاع المثقلين بالأزمات والهموم.
واستخدم الاحتلال في حصاره المالي على قطاع غزة عدة طرق ووسائل، منها منع وصول السيولة المالية، وحظر وصول الحوالات المالية من الخارج، واستهداف مكاتب الصرافة، وتدمير البنوك والمصارف، وحظر أي نشاط اقتصادي يتعلق بنقل الأموال لغزة.
عامان من الحصار المالي
وألقت الحرب المستمرة على القطاع بظلال سيئة على المواطنين في غزة، ممن باتوا يفتقدون السيولة المالية، في ظل توقف إنشاء محافظ الكترونية جديدة، أو فتح حسابات بنكية، ما يحد من قدرة الناس على التعاملات التجارية المختلفة.
ويقول المواطن باسل طه، إن الحصار المالي المشدد على قطاع غزة حرمه وغيره كل مصادر المال، حيث فقد عمله في مجال الزراعة، وحتى الحوالات المالية البسيطة التي كانت تصله من الخارج، عبر أقارب باتت لا تصل، وحال وصلت يصرفها بنصف قيمتها الفعلية.
وأشار طه "فلسطين بوست"، إلى أن وضع سرته تدهور، ولا يستطيع تدبير أموره بسبب هذا الحصار، فالحصول على المال في القطاع بات صعب، والسيولة شبه مفقودة.
بينما يقول المواطن محمد ربيع، إن راتبه الشهري يتم إيداعه في حسابه البنكي، ولا يستطيع الحصول على السيولة بسبب اغلاق البنوك، ومنع الاحتلال إيصال النقد للقطاع.
وأكد أنه وغيره من الموظفين والمواطنين باتوا ضحية للحصار المالي الخانق المفروض على القطاع، فحال رغب بسحب أمواله عليه دفع عمولة قد تصل إلى 35%، وحال رغب بالشراء من خلال التطبيق البنكي "معاملات الكترونية"، فهو سيشتري بأسعار أعلى ما بين 30-40%، عن الشراء بالكاش، منوهاً للأسعار العالية في الأسواق.
وأشار إلى أنه كلما مر وقت أطول على استمرار الحصار المالي زادت التباعات، وتعمقت المشاكل.
أزمة السيولة والعملات التالفة
وبعد شح السيولة، وارتفاع عمولة السحب، وإلغاء عدد من العملات المعدنية، ظهرت مشكلة "الفكة"، التي يعاني منها المواطنون، حيث وصل الحد لاستبدال 100 شيكل عملات معدنية من فئات "1، 2، و5 شيكل، مقابل 80 فقط.
ومؤخراً ظهرت مشكلة جديدة صعبت على المواطنين التعاملات المالية اليومية، وتمثلت في رفض قبول أية عملة ورقية يظهر عليها أي علامة تلف، خاصة الثقوب.
وبمجرد إعطاء الباعة عملات ورقية خاصة من فئتي 20 و50 شيكل، يسارع البائع برفعها وتوجيهها ناحية الشمس، لكشف أية ثقوب أو عيوب بها، وبمجرد رؤية أي ثقب مهما كان صغير، يتم رفضها.
وجراء ذلك، انتشرت بسطات إصلاح العملات، حيث يقوم مواطنون متخصصون بإغلاق الثقوب، وتثبيت الشقوق في الورقة النقدية، ما يساعد على قبولها من قبل الباعة.
وأكد مواطنون أن ما يحدث في السوق أمر لا يمكن القبول به أو احتماله، فالباعة تدريجياً يجعلون الأموال التي يمتلكها المواطنون بلا قيمة، فالأوراق إذا ظهر عليها بعض التلف لا يقبلون بها، وإذا كانت جيدة، يطلبون فكة، بذريعة أنهم لا يوجد معهم مال لإرجاع الباقي، والأمر أصبح مزعج للغاية.
وقال المواطن محمود مطر، إن غياب الرقابة، وعدم وجود جهة تنفيذية في السوق حولت الأخيرة لحالة من الفوضى غير المسبوقة، والباعة والتجار يتحكمون في الأسواق، فقد اخرجوا عملة إلـ10 شيكل تماماً من دائرة التعامل، وهم ماضون في إخراج ورقة العشرين شيكل أيضاً، وبعدها العملة فئة الخمسين، عدا عن طلب الفكة.
وأكد أن أكثر ما هو مزعج قيام الباعة بإخضاع العملات الورقية للفحص الدقيق بواسطة الشمس، والبحث والتدقيق في أي عيب فيها حتى يرفضونها، متسائلاً من أين جاؤوا بهذا التقليد الغريب؟، فطالما البنوك ستقبل بالأوراق النقدية طالما بقي فيها الرقم التسلسلي يجب على الباعة القبول بها.
وأوضح مطر أنه حال لجأ المواطنون للشراء عبر الدفع المالي الالكتروني، يرفع التجار والباعة ثمن السلعة ما بين 30-50%، وهذا استغلال آخر يجب التوقف عنده، مطالباً بالعمل على ضبط الأسواق، وإنهاء حالة الفوضى الحاصلة.
سياسة خطيرة
وقال المرصد "الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" إنّ إسرائيل، منذ شروعها في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023، تمنع البنوك والمؤسسات المصرفية من إدخال أي كمية أو نوع من السيولة النقدية إلى القطاع، بالتزامن مع استهداف مباشر لمقارّ تلك البنوك وأجهزة الصرّاف الآلي وتدميرها، ما أجبر الغالبية الساحقة منها على الإغلاق الكامل أمام السكان، وأفرز أزمة إنسانية واقتصادية خانقة تتصاعد حدّتها يومًا بعد يوم، في سياق منهجي للقضاء على أي قدرة للبقاء في قطاع غزة.
وذكر المرصد أنّ العواقب الناجمة عن الشحّ الحاد في السيولة النقدية تجاوزت حدود الاحتمال بعد عامين على بدء جريمة الإبادة الجماعية، إذ اضطر السكان، في ظل شلل شبه كامل في الخدمات المصرفية بما يشمل السحب والإيداع، إلى اللجوء إلى السوق السوداء للحصول على النقد، مقابل عمولات مرتفعة تستنزف ما تبقى من قدراتهم المعيشية.
وحذّر "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" من أنّ هذه الممارسات تفرض عمدًا ظروفًا معيشية قسرية تؤدي إلى تدمير بطيء ومنهجي للسكان، وتشكل فعلًا من أفعال الإبادة الجماعية المحظورة بموجب القانون الدولي، وانتهاكًا سافرًا للقانون الدولي الإنساني، ومساسًا مباشرًا بالحقوق الأساسية للفلسطينيين، وفي مقدمتها الحق في الحياة، والكرامة الإنسانية، والمستوى المعيشي اللائق، والغذاء، والصحة، والسكن، والعمل.
وأوضح المرصد الأورومتوسطي أنّ هذه الظروف فاقمت الأعباء المالية والاقتصادية والنفسية، لا سيما على الفئات الأكثر هشاشة، وفي مقدمتها الأسر الفقيرة، التي باتت تُشكّل الغالبية الساحقة من السكان، نتيجة فقدان مصادر الرزق وتدميرها المتعمد ضمن سياسة إسرائيل المنهجية للتجويع والإفقار.
وبيّن المرصد أنّ الموظفين، وأصحاب الأعمال، وحتى الأسر التي تعتمد على التحويلات المالية من الخارج، لم تعد تجد وسيلة للحصول على النقد سوى عبر قنوات غير رسمية يديرها عدد من التجار وأصحاب محالّ الصرافة ممّن يحتكرون السيولة النقدية ويستغلون حاجة السكان باقتطاع نسب تصل إلى 35% من قيمة المبلغ، في ظل غياب تام لأي رقابة أو مساءلة، نتيجة تقويض إسرائيل النظام العام وتفكيك منظومتي الأمن والعدالة في قطاع غزة على نحو منهجي.
كتب: محمد الجمل