أيقونة العملات

العملات

الدولار اليوم
اليورو اليوم
أيقونة الطقس

الطقس

أيقونة الإشعارات

اشعارات

مقالات

حرب غزة: نهاية صنعها الدم وفرضتها العزلة

16 أكتوبر 2025 - بقلم: محمود أبو حسن

نهاية الحرب في غزة، كما يروّجها كلٌّ من ترامب ونتنياهو، لا يعني نهاية الفعل العسكري بقدر ما يعني تحوّل شكل الحرب واتساع رقعتها السياسية والنفسية. فالمشهد الإسرائيلي اليوم لا يوحي بسلام مقبل، بل بانتقالٍ محسوب نحو إدارة حرب منخفضة التكلفة والوتيرة، تضمن لدولة الكيان البقاء في حالة تفوق ميداني دون انزلاق إلى مستنقع احتلال مباشر جديد، يفضي إلى مزيد من الاستنزاف والعزلة.

ما قاله ترامب وكرره نتنياهو لا يُفهم إلا في سياقٍ واحد: أن الحرب انتهت بمعناها المتوحش الذي ألب العالم كله عليهم، لكنها لم تنتهِ كأداة ضغط وترويض. وهي ليست نهاية النار، بل تحولها إلى جمر تحت الرماد؛ تُشعلها إسرائيل متى أرادت، وتُخمدها متى اقتضت مصالحها ذلك. وما نشهده من استهدافات متقطعة، وتوغلات محدودة، ورسائل نارية مركزة، في جنوب لبنان، ما هو إلا ترجمة عملية لمنطق السيطرة بالحد الأدنى من الكلفة، وهو ذات المنطق الذي تسعى لفرضه دولة الاحتلال في جنوب فلسطين، قطاع غزة.

غير أن غزة ليست جنوب لبنان؛ فإسرائيل تراها كما يبدو جزءا من مجالها الأمني الداخلي، وليست مجرد حدود قابلة للاشتعال، وهذا يفسر إصرارها على المنطقة العازلة التي تضمن ذلك، علاوة على مصادرتها الأراضي الخصبة وسلة قطاع غزة الغذائية، ومن هنا تكمن خطورة المرحلة المقبلة: فبينما يُراد لجنوب لبنان أن يبقى خاصرة ملتهبة يمكن احتواؤها بالردع، يُراد لقطاع غزة أن يختزل في “ملف إداري أمني” تُديره دولة الاحتلال عن بُعد، بلا اعتراف سياسي ولا التزام إنساني.

إن القول بأن الحرب انتهت، فيما يشبه المسرحية الهزلية بشرم الشيخ، هو إعلانٌ عن ولادة نمط جديد من الاحتلال: احتلال بلا جنود على الأرض، لكنه حاضرٌ في السماء وفي أجهزة الاتصالات والاقتصاد والزراعة والحدود والمعابر والأمن، احتلالٌ لا يُعلن نفسه، لكنه يُمسك بكل خيوط الحياة والموت داخل القطاع.

وهذا الشكل من السيطرة ينسجم تماما مع خطة كوشنر وترامب - إن اعتبرناها خريطة لإعادة الهيكلة السياسية والأمنية - التي لا تسعى إلى حلّ الصراع، بل إلى تفكيكه وتذويبه في ترتيبات اقتصادية وأمنية تُنهي معناه التحرري المقاوم المطالب بحق تقرير المصير، وتحوّله إلى ملف معيشة ومساعدات.

لذلك، ما بعد الحرب ليس سلاما، بل صمتٌ مفروضٌ بالقوة، والهدف إخماد المقاومة لا عبر اجتياح شامل، بل عبر خنقها وحاضنتها بالاستنزاف البطيء: قصفٌ هنا، توغلٌ هناك، حصارٌ دائم، مشاريع إعمار مشروطة. حربٌ تُدار على مهل، ببرود مدروس، هدفها أن تقتل الروح قبل أن تُجهز على الجسد.

لكن المقاومة الفلسطينية، لا يوجد في قاموسها مفردة تسمى "نهاية الحرب" بمعناها الناظم، إلا إذا ترافق ذلك مع انسحاب كامل، ورفع دائم للحصار، وضمانات سياسية تحمي الحقوق الوطنية الفلسطينية. لذلك ترد المقاومة، بصوتٍ متحدٍّ وواضح، أنّها لن تسلم سلاحها ولا ساحة قرارها العسكري إلا مقابل استعادة الحقوق والسيادة الكاملة.

وهذا الموقف ليس مجرد خطاب احتجاجي بل هو تعبير عن تراكم تجربة ميدانية وسياسية رأت في خطوات التفريغ الأمني والدفع نحو الفوضى أو الاقتتال، والتفكيك الإداري الناظم لحياة ناس غزة، محاولة لإفراغ المقاومة من جوهرها وشرعيتها. لذلك فإن أي "نهايةٍ" يُعلنها أعداء المقاومة دون سقفٍ سياسي واضح ومقبول شعبيا، ستُقابل بمقاومة مستمرة سياسيّة وميدانية تُصْرُّ على أن تكون العودة إلى وضع ما قبل انفجار السابع من تشرين أول/أكتوبر مستحيلة ما لم تُستعاد كرامة الشعب وحقوقه. على رأسها تبييض السجون الذي كان عنوان المعركة.

إن رفع البنادق في غزة وعنها تكرّر مرارا لصالح هدنة أو تبادل أسرى، لكن لحظيا، وبقيت اليد التي تمسك الزناد مرفوعة كشرط استراتيجي لردع أي محاولات لإعادة ترتيب المشهد لصالح احتلال دائم أو تفريغ سياسي. وما يُسمّى اليوم "نهاية الحرب"، في خطاب ترامب ونتنياهو ما هو إلا بداية حرب بصيغة أخرى، حرب تمتد إلى اقتصاد الناس ومعابرهم وهوياتهم أكثر مما تمتد إلى خريطة المواجهة العسكرية فحسب.

وهكذا، تظل غزة ـ رغم اللأواء والخذلان والأذى - قبسا لا ينطفئ، تقاوم بصبر الأنبياء ودمع الأمهات، وتكتب بدمائها فصلا جديداً من سفر البقاء.

فليقولوا ما شاؤوا عن نهاية الحرب، وليخططوا ما أرادوا، فمن في قلبه عقيدةٌ الإسلام، لا يُهزم أبدا. ستظل دماء ناس غزة وبنادق رجالها شاهدة على أن طريق الحرية قد يطول، لكنه لا يضيع، وأنّ الله لا يُضيع من سار إليه موقنا بأن كل دم في سبيل الأرض والكرامة هو شهادة حياة لا موت.