بعد نحو شهرين من وداعها في موكب فرح مهيب، حين غادرت غزة من خلال معبر رفح متوجهة لتركيا حيث كان خطيبها الذي سافر بحثاً عن فرص حياة أفضل بانتظارها، استقبلتها عائلتها عند ذات المعبر لكن بطريقة مختلفة، بدموع الحزن والأسى، بعد أن عادت إليهم في تابوت خشبي جثة هامدة.
وداع بالدموع
نقل التابوت الخشبي إلى منزل عائلة صابرين أبو جزر في مدينة رفح، جنوب قطاع غزة وبعد إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على جثمانها، ووري جثمانها الثرى، وفي نفس الوقت كان مواطنون من محافظة خان يونس، يوارون الشاب محمود أبو طير، الذي غرق في بحر اليونان، خلال محاولته الهجرة عبر قوارب الموت.
ووفق عم صابرين علاء أبو جزر فإن العائلة تلقت خبر غرق القارب وفقدان صابرين كالصاعقة، فابنتهم غادرت غزة فرحة، تأمل أن تصل إلى خطيبها المقيم في بلجيكا، ليعيشا معاً حياة مستقرة.
بينما تؤكد الأم المكلومة سها أن ابنتها صابرين كانت فتاة بسيطة، كل حلمها أن تسافر وتصل لزوجها، وغامرت بحياتها على أمل أن تحظى بظروف حياة أفضل، وانطلقت في القارب برفقة عدد من أقربائها فابتلعتها الأمواج، وعادت إليها جثة هامدة.

ولم يكن حال عائلة صابرين بأحسن من عائلات كثيرة فقدت أبنائها في قوارب الهجرة غير الشرعية، على شواطئ تركيا، واليونان، وتونس، وليبيا، فتعيش والدة الشاب خالد شراب، من سكان محافظة خان يونس، والذي توفي بعد غرق قارب كان يستقله برفقه مهاجرين آخرين قبالة شواطئ اليونان، تعيش حالة حزن كبيرة، إذ تؤكد بأن نجلها غادر غزة منذ نحو عام ونصف العام، بحثاً عن لقمة العيش ومستقبل أفضل، وقرر ركوب البحر من أجل الوصول لأوروبا، لكنهم فقدو الاتصال به قبل العثور على جثته بعد أسبوع، وأن آخر اتصال معه، أفاد بأنه على وشك ركوب القارب، وطلب من والدته أن تدعو له.
ووفق الوالدة التي لازالت تعيش حالة حزن رغم مرور عدة أشهر على الحادثة، فإن ابنها بلغ من العمر 27 عاماً، لم يعثر على فرصة عمل، ولم يستطع بناء مستقبله، أو تكوين نفسه، ما دفعه للهجرة، أملاً بأن يجد ظروف حياة أفضل، دون أن يعلم أنه الموت سيخطفه وسط البحر.
بينما سكن الحزن منزل عائلة السماري بمحافظة خان يونس، بعد تلقيهم نبأ وفاة ابنهم خالد غرقاً قبالة شاطئ اليونان، إذ تقول والدته المريضة، التي فقدت زوجها قبل نحو الشهر من وفاة ابنها، إن الخبر وقع عليهم كالصاعقة، فقد كانوا ينتظرون سماعهم خبر وصوله سالماً، بعد أن أُرغم على خوض غمار رحلة الهجرة مستقلا قوارب الموت، ليساعد عائلته الفقيرة في تلبية احتياجاتها.

ولم يكن حال عائلات قشطة والشاعر التي فقدت أربعة من أبنائها في غرق قارب قبالة شواطئ تونس بأحسن حالاً، فقد ودعت العائلتين خيرة ابنائهما على أمل أن يحظوا بمستقبل أفضل، فعادوا لهم في توابيت خشبية جثثاً هامدة.
ناجون من تابوت خشبي
وعلى الرغم من وفاة العشرات خلال الأشهر الماضية، إلا أن الحياة كتبت من جديد لعدد من الشبان، بعد أن غرقت بهم القوارب خلال محاولتهم الهجرة، وسخر الله لهم من ينقذهم، وينتشلهم من البحر الهائج، ومن بينهم الشاب شادي فطاير، الذي رأى الموت بأم عينيه، قبل أن يقرر العودة لغزة، والإقلاع عن فكرة الهجرة.
ويقول فطاير، الناجي من غرق إحدى القوارب قبالة شواطئ تونس، إنه حسب الاتفاق مع المهربين فإنه كان من المفترض أن يتحرك هو و24 فلسطينياً آخرين في رحلة خاصة عبر يخت سياحي فاخر وآمن، ولكن حين وصولوا الشاطئ وجدوا بانتظارهم مركباً قديماً، وحين حاول التراجع، جرى تهديده وغيره بالسلاح، وأُجبروا على ركوب السفينة عنوة، وكان عددهم حين ذاك 25 فلسطينياً، و31 مواطن مصري، وبعد سيرها نحو 180 كيلو في عرض البحر تعطل محرك المركب، وانسكب الوقود داخله، وحدث حريق على متنه، ما تسبب بإصابة عدد من الشبان بحروق، وقد أُجبر بعضهم على القفز في المياه.
وبين فطاير أنهم كانوا من المحظوظين، حين حلقت فوقهم طائرة انقاذ، وجرى إرسال قوارب إغاثة، وبدأت عملية إنقاذهم، ونقلهم على متن قارب آخر، لتأمينهم، ومن ثم جرى احتجازهم في إحدى السجون بدولة ساحلية، قبل أن يتم إطلاق سراحهم.
فما نجا الشاب يحيى بربخ بأعجوبة قبل عدة أشهر، بعد أن أجبر على ركوب قارب مهترىء في طريق هجرته لليونان، وفي منتصف البحر ارتفعت الأمواج وازدادت قوتها، والقارب انقلب بهم وسقطوا جميعاً في المياه، من بينهم ثلاثة انقلب القارب فوقهم مباشرة، واختفوا عن الأنظار خلال دقائق، بينما سقط آخرون، وحاولوا جاهدين البقاء على قيد الحياة.
وبيّن بربخ أنهم تخلصوا من أمتعتهم التي كانوا يحتضنونها طوال الرحلة، وبقوا يواجهون الأمواج لأكثر من ثلاث ساعات، حتى بدأت قواهم تنهار، وفقدوا الأمل في النجاة، إلى أن وصل مركب من خفر السواحل التركي، وبدأ بإنقاذهم تباعاً، ونقلهم إلى مكان آمن، لتبدأ رحلة العودة التي انتهت بوصوله إلى قطاع غزة.
ووفق معطيات غرفة تجارة وصناعة غزة، فإن معدلات البطالة في قطاع غزة تجاوزت 50%، إذ يؤكد ماهر الطباع مدير العلاقات العامة والإعلام بالغرفة أن الحصار الإسرائيلي الخانق على قطاع غزة للعام 16 على التوالي، خلق ضغوط اقتصادية واجتماعية كبيرة، وأدى لحالة من اليأس وفقدان الأمل لدى الكثير من الشباب، أجبرت مئات بل آلاف الشبان على خوض غمار رحلة هجرة خطيرة، أودت بحياة عدد كبير منهم.
هجرة محفوفة بالمخاطر
وطريق الهجرة غير الشرعية من تركيا إلى أوروبا تنقسم الى قسمين، الأول في البحر عبر قوارب معظمها متهالكة، وهذه أكبر عملية كذب وخداع يتعرض لها الراغبون في الهجرة، وفق شهادة العديد من الناجين، عبر إغرائهم وتزيين الأمر لهم، بأنهم سيركبون أحدث القوارب وأكثرها أمنا، ليتفاجؤوا بمراكب متهالكة، تغرق معظمها في البحر.
أما الطريق الآخر للهجرة فهو سلوك الغابات، والسير أيام وليالي وسط البرد القارس، وصولاً الى دول أوروبية في طريق الهجرة الى بلجيكا، حيث يتوجه العديد من الشبان، والطريقة الأخيرة ربما تكون أخطر، فكثير من الشبان لم يتحلموا البرد والجوع، أو تاهوا في الغابات وماتوا متجمدين.
ووفق روايات ناجين فإن الواقع على الأرض يختلف كلياً عما يحاول البعض رسمه، فرحلة الهجرة شديدة الخطورة، وعصابات المهربين تبتز المهاجرين وتخدعهم، وينظرون لكل مهاجر على أنه 2000 يورو ليس أكثر، يأخذونها منه مقابل تهريبه.
وناشد المستشار السياسي لوزير الخارجية الفلسطينية السفير أحمد الديك مجدداً جميع المواطنين الفلسطينيين والأسر الفلسطينية بعدم اتباع أساليب الهجرة غير الشرعية، محذراً من مخاطرها الكارثية على حياة أبناء شعبنا.

واعتبر الديك، أن شهداء لقمة العيش هم ضحايا الظروف المأساوية التي يعيشها الشعب الفلسطيني جراء وجوده تحت الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، داعيا أبناء شعبنا إلى الحذر من الوقوع في مصيدة عصابات التهريب والهجرة غير الشرعية الذين لا يتورعون عن تعريض حياة أبنائنا للخطر وابتزازهم ماليا.
كتب: محمد الجمل
خبر شهيد لقمة العيش أيمن أبو عابد في طريقه إلى قطاع غزة