أيقونة العملات

العملات

الدولار اليوم
اليورو اليوم
أيقونة الطقس

الطقس

أيقونة الإشعارات

اشعارات

مقالات

مرآة إيرلندا: وَهْمُ نزع السلاح الغزيّ

4 نوفمبر 2025 - بقلم: محمود أبو حسن

حين يجلس مهندسو "السلام" الغربيون ويعيدون استحضار تجاربهم القديمة، تتشكل رؤى تبدو مقنعة على طاولة الاستشارات والدبلوماسية الغربية، منها ما عرض علينا مؤخرا، كخطوة أولى في المرحلة الثانية من خطة ترامب المقترحة لغزة، وهي نزع سلاح المقاومة الفلسطينية، على غرار تجربة اتفاقية "الجمعة العظيمة" في إيرلندا الشمالية: نزع سلاح الجناح المسلح (الجيش الجمهوري الإيرلندي) مقابل مشاركة سياسية وإعادة تنظيم مؤسسي، وعفو عن كل من يضع السلاح، ثم الإعلان عن فتح صفحة جديدة.

هذا ما يحاول الساسة الغربيون تسويقه لنا كمرآة عاكسة لحلول اليوم التالي لحرب غزة، باستحضار عرّابيْ الجمعة العظيمة: توني بلير وجوناثان باول. 

لكن ما يجهله هؤلاء المخضرمون أن خططهم عندما تنتقل من خرائط السياسة التي يرسمونها، لتوضع على صخور العقيدة، يتبدّى فيها شرخ جذري لا يلتئم، لا بقرارات طبخت على عجل تحت ضغط الرأي العام العالمي وعزلة مدللتهم "إسرائيل"، ولا بصفقات دولية، بغض النظر عن عرّابيها.

غزة، وإيرلندا، تفضح أنّ ما يجري ليس مجرد تقليد بحت، أو توظيف تجربة ناجحة، بل مشروع يتجاهل جذورا عقديّة في المسيرة الفلسطينية، ويستخفّ بالدم الفلسطيني والدم المسلم في حسابات ساسة الغرب وحلفائهم في المنطقة، بل ويعتبرها أرقاما قابلة للتفاوض. 

حركة حماس منذ انطلاقها لم تكن مجرد حزب سياسي أو فصيل مسلّح قابل للتعديل ينتظر مقعدا في برلمان؛ بل شكلت مشروعا إسلاميا مقاوما يتبنّى عقيدة الجهاد والدفاع عن الأرض والعرض.

وهو ما يؤكده مؤسسها الشيخ أحمد ياسين، في أكثر من مناسبة، وأقتبس من أرشيف الجارديان قوله: "إن الحرب على الاحتلال ليست ترفا أو خيارا تكتيكيا حين يُحرَم الإنسان من حقّه، والسلاح ليس عبئا بل واجبا شرعيّا، ما لم يُستبدَل ببديل عادل يُحقّق التحرير والكرامة".

من هنا، فإن تداول فكرة (نزع سلاح حماس مهما كان الثمن)، ليس مجرد تغيير في بنية عسكرية حزبية سياسية، وإنما محاولـةٌ لنزع الجذور العقائدية التي ترتكز عليها المقاومة، وتحويلها إلى كيان منزوع الروح، فاقد القدرة على القتال لا إلى شريك يتحكَّم ­بأدواته.

الجمعة العظيمة

أنهت اتفاقية الجمعة العظيمة سنة 1998 مرحلة من الصراع الطائفي الحزبي في إيرلندا الشمالية استمر 30 سنة، عبر حزمة من التنازلات السياسية تمثلت في: مشاركة في السلطة، إصلاحات في الشرطة، إطلاق سراح أسرى، عفو عمن يلقي السلاح، تدابير دولية لضمان التنفيذ. وكان نزع السلاح بندا عسيرا تطلّب سنوات؛ فقد بدأت عمليات تفكيك الأسلحة فعليا بعد الاتفاق واستمرّت تدريجيا حتى إعلان الجيش الإيرلندي نهاية حملته المسلحة عام 2005.

كان جوهر الصراع بين الكاثوليك القوميين المطالبين بالانضمام إلى جمهورية إيرلندا، والبروتستانت الوحدويين المتمسكين بالبقاء تحت التاج البريطاني. وحظيت الاتفاقية بدعم دولي قوي، خاصة من الولايات المتحدة التي لعبت دور الوسيط.

أسفر الصراع عن نحو 3,700 قتيل، وبنى تفاهمات سياسية متبادلة أدّت تدريجيا لنزع السلاح. وتأسيس جمعية تشريعية منتخبة، وتعديل الدستور الإيرلندي لوقف المطالبة بالسيادة على الشمال. هذا السياق سمح بجسر الهوة السياسية تدريجيا، وإنهاء الصراع في إيرلندا.


فرقُ السِّياق والنتائج

هذا النموذج يُعرض اليوم على غزة كما لو أن ظروفها تتشابه مع إيرلندا، لكنها ليست كذلك. ففي إيرلندا الشمالية كان الصراع داخليّا على شكل الدولة وهوية الحكم داخل إطار سياسي قابل للتوافق، أما غزة، فسنتان من الحرب المتوحشة أدّت إلى خسائر بشرية هائلة تجاوزت 67 ألف شهيد وآلاف المفقودين، إضافة لدمار شامل لحق بالقطاع وبنيته التحتية كافة، ناهيك عن الأزمة الإنسانية التي تتخطى بمراحل ما يمكن تجاوزه بتدابير انتقالية قصيرة الأجل.

مثل هذه النتائج، تغيّر حسابات الجماهير وتغذي عقدة التمسك بالسلاح كوسيلة دفاع وثأر وعدالة لم تتحقق بالمفاوضات سابقا، ولن تتحقق وفق ما تشهده الساحة الغزية: تنصل الاحتلال من التزامات المرحلة الأولى على رأسها إدخال شاحنات المساعدات للمجوعين داخل القطاع، وإخراج الجرحى لتلقي العلاج.

أما الغرب - ببُنيته الدبلوماسية والأمنية - يرى في نموذج إيرلندا مجموعة حلول قابلة للتقليد: وساطات في مصر وقطر، وسلطات مؤقتة بإشراف غربي، وبرامج نزع سلاح وبرامج إعادة إدماج، وتلويح بعفو عمن يترك سلاحه، وزد على ذلك كله تهديدات متكررة بالقتل وتجدد الإبادة واستخدام القوة المفرطة وغير ذلك.

لكن المقارنة تُخفق حين يُغفل البُعد العقائدي المرتبط بالمقاومة؛ فالجماعات التي تستمد وجودها من مرجعية دينية وواجب شرعي، وتجربة مأساوية حية متواصلة، لا تتحول إلى حزب براغماتي؛ لأن "مقعدا في البرلمان" لا يغشى وقع خبر ابنة دفنت حية، أو منزل دمر فوق رأس ساكنيه، أو رضيع فقد، بل سرق بأيدي جنود الاحتلال.

هنا في الساحة الغزية يلتقي الخطاب العقدي مع الوجدان الجمعي، ويصبح السلاح رمزا لهوية لم يترك لها ما تستبدل به بسهولة. هنا لن يجرؤ أحد أن يحدث رجلا خرج من تحت الأنقاض ليقول له: سلم سلاحك وسننظر في دم أولادك لاحقا.

وكوني عشت ردحا من الزمن داخل السجون مع أسرى تحرروا في صفقة الطوفان، أستطيع القول نيابة عنهم أن الموت لم يكن هدفا لهم يوما، بل كان جل حلمهم البحث عن الحياة، لكنهم ما وجدوا سوى البندقية وسيلة ليصلوا إلى هذه الحياة المرجوة، أسرى سرقت أجمل سنين حياتهم لكنهم ما ندموا وما بدلوا وما استكانوا رغم القمع والتعذيب والحرمان. أسرى السلاح عندهم ليس أداة للقتال بل معنى للوجود، هم أنفسهم لم يكونوا ليروا السماء عارية دون سياج شائك لولا هذا السلاح، الذي آمنوا بقدسيته وآمنوا به كوسيلة وحيدة للحرية، واليوم يطلب من أقرانهم تسليمه، فهل سيفعلون؟!.

وهنا أقول: أن مصادر القرار الغربي قد تضع سيناريوهات شتى لكنها تبقى أحلاما إذا لم تُقابل بخطوات تعالج العدالة والحقوق والكرامة للإنسان الفلسطيني عامة والغزي خاصة، على أرضه علاجا جذريا.

تحركات

توني بلير وجاريد كوشنر وجوناثان باول يتحركون اليوم وكأنهم يعيدون كتابة تاريخ ظنوا إمكانية نسخه. لكن إيرلندا لم تكن ميدانا لاحتلال استيطانيٍّ دينيٍّ متغطرس، ولم يُحاصر فيها شعب كامل في رقعة صغيرة من الأرض قرابة الـ 18 سنة.

هناك سُلّمت البنادق لأن السلام كان ممكنا، أما هنا، فالسلام الحقيقي لم يُعرض بعد. والذين يحلمون بـ"غزة جديدة" على الطريقة البريطانية، يجهلون أن غزة ليست رقعة جغرافية فحسب، بل فكرة مترسخة في تاريخ الإسلام العميق، هي بوابة بيت المقدس وأكنافه، ومقبرة الغزاة لبلاد الشام، وفيها تبلور جيل خلال العشرين سنة الماضية تحت حصار وحروب وحرمان، جيل عاش مذبحة رأى خلالها العالم كله إما قاعد، أو متآمر أو متخاذل، هذا الجيل لا يمكن أن يتخلى عن سلاحه وهو يرى القاتل حرا مسلحا طليقا.

"وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا" (النساء:141).

من يؤمن بالقرآن دستورا، ومنهاجا يفهم أن هذه الآية ليست كلمات للتعزية والمواساة، بل وعد إلهي للمقهورين بأن الله في صفهم، وغير مقبول منهم الاستسلام، ففي عقيدة المقاومة البندقية ليست مشروع سلطة، بل هي آخر حدود الكرامة في وجه عالم يريد استسلاما بلا عدالة.